مجلس الدولة - المكتب الفني - مجموعة المبادئ القانونية التي قررتها المحكمة الإدارية العليا
السنة الثالثة - العدد الثالث (من أول يونيه إلى آخر سبتمبر سنة 1958) - صـ 1373

(145)
جلسة 7 من يونيه سنة 1958

برياسة السيد/ السيد علي السيد رئيس مجلس الدولة وعضوية السادة سيد علي الدمراوي والسيد إبراهيم الديواني وعلي إبراهيم بغدادي والدكتور ضياء الدين صالح المستشارين.

القضية رقم 147 لسنة 4 القضائية

( أ ) إجراءات - الأصل في المنازعات الإدارية هو وجوب تطبيق قواعد الإجراءات المنصوص عليها في قانون تنظيم مجلس الدولة - أحكام قانون المرافعات لا تطبق إلا استثناءً فيما لم يرد فيه نص في قانون مجلس الدولة - امتناع تطبيق أحكام المرافعات إذا تعارضت نصاً أو روحاً مع أحكام قانون مجلس الدولة.
(ب) إجراءات - استبعاد فكرة الحكم الغيابي وجواز المعارضة فيه من النظام القضائي بمجلس الدولة - أساس قيام هذا النظام على مبدأ المرافعات التحريرية في مواعيد محددة، وعلى تحضير الدعوى من هيئة مفوضي الدولة قبل تحديد جلسة لنظرها.
(ج) مرافعات - نظام استيفاء الديون الثابتة بالكتابة في المرافعات - قيامه أساساً على نظام الأحكام الغيابية وجواز المعارضة فيها - تعارضه صراحة مع قانون مجلس الدولة في أصول نظامه القضائي.
(د) إجراءات - نظام استيفاء الديون الثابتة بالكتابة في المرافعات - تعارضه أساساً مع النظام الإجرائي المنصوص عليه في قانون تنظيم مجلس الدولة من حيث كيفية رفع الدعوى أو تبادل الدفاع التحريري من ذوي الشأن أو أداء هيئة مفوضي الدولة وظيفتها.
1 - إن المادة 74 من القانون رقم 165 لسنة 1955 بشأن تنظيم مجلس الدولة - إذ نصت على أن "تطبق الإجراءات المنصوص عليها في هذا القانون. وتطبق أحكام قانون المرافعات فيما لم يرد فيه نص وذلك إلى أن يصدر قانون الإجراءات الخاصة بالقسم القضائي" - قد جعلت الأصل هو وجوب تطبيق الإجراءات المنصوص عليها في قانون تنظيم مجلس الدولة، والاستثناء هو تطبيق أحكام قانون المرافعات فيما لم يرد فيه نص في القانون المشار إليه. وغني عن البيان أن أحكام قانون المرافعات لا تطبق في المنازعات الإدارية، إذا كانت هذه الأحكام تتعارض نصاً أو روحاً مع أحكام قانون تنظيم مجلس الدولة، سواء في الإجراءات أو في أصول النظام القضائي بمجلس الدولة.
2 - إن استبعاد فكرة الحكم الغيابي وجواز المعارضة فيه من النظام القضائي بمجلس الدولة هو النتيجة المنطقية التي تتحاذى مع نظام إجراءات التقاضي أمامه وتترتب عليه؛ إذ يقوم هذا النظام أساساً على مبدأ المرافعات التحريرية في مواعيد محددة منضبطة، يستطيع ذوو الشأن فيها أن يقدموا مذكراتهم كتابة مع مستنداتهم، كما جعل تحضير الدعوى وتهيئتها للفصل فيها منوطاً بهيئة مفوضي الدولة، وألزمها إيداع تقرير تحدد فيه وقائع الدعوى والمسائل القانونية التي يثيرها النزاع وإبداء الرأي في ذلك مسبباً، كل ذلك قبل تعيين جلسة لنظر الدعوى، وفيها يصدر الحكم علناً، وليس من حق ذوي الشأن أن يصروا أمام المحكمة على طلب المرافعة الشفوية؛ لأن المرافعات التحريرية في المواعيد القانونية هي الأساس كما سلف القول، وإنما لرئيس المحكمة أن يطلب إليهم أو إلى المفوض ما يراه لازماً من إيضاحات.
3 - إن نظام استيفاء الديون الثابتة بالكتابة - المستحدث في الباب الخامس من الكتاب الثالث من قانون المرافعات المدنية والتجارية، المعدل بالقانونين رقمي 265 لسنة 1953 و485 لسنة 1953، كما يبين من نصوصه في ضوء المذكرات الإيضاحية لهذه القوانين - هو وثيق الصلة بل يقوم أساساً على نظام الأحكام الغيابية وجواز المعارضة فيها؛ فقد استهدف المشرع بأوامر الأداء - وإن صدرت على عريضة - أن تكون بمثابة أحكام غيابية في ديون كانت تنتهي عادة بأحكام غيابية وتندر المعارضة فيها، فأجاز مبدأ استصدار أمر الأداء بدل عرض النزاع على المحكمة ابتداءً وتعطيل نظر القضايا الأخرى، ولكنه قرر في الوقت ذاته، كمبدأ مكمل لهذا النظام ومتلازم مع المبدأ الأول، جواز المعارضة في أمر الأداء، فإذا لم ترفع المعارضة في الميعاد أصبح أمر الأداء بمثابة حكم حضوري (م 855). وغني عن القول أن هذا النظام يتعارض صراحة مع قانون مجلس الدولة في أصول نظامه القضائي، الذي لا يسمح بالمعارضة في الأحكام الصادرة منه بهيئة قضاء إداري.
4 - إن النظام الإجرائي لاستيفاء الديون الثابتة بالكتابة يتعارض أساساً مع النظام الإجرائي المنصوص عليه في قانون تنظيم مجلس الدولة، سواء من حيث كيفية رفع الدعوى أو تبادل الدفاع التحريري من ذوي الشأن أو أداء هيئة مفوضي الدولة وظيفتها.


إجراءات الطعن

في 30 من يناير سنة 1958 أودع السيد رئيس هيئة مفوضي الدولة طعناً في الحكم الصادر من محكمة القضاء الإداري (الهيئة الخامسة) بجلسة أول ديسمبر سنة 1957 في الدعوى رقم 1064 لسنة 10 ق المقامة من وزارة التربية والتعليم ضد زهدي محمد، والذي قضى "برفض الدفع بعدم قبول الدعوى، وبقبولها، وفي الموضوع بإلزام المدعى عليه بأن يدفع للوزارة مبلغ 480 م و11 ج والمصروفات". وطلب السيد رئيس هيئة المفوضين - للأسباب التي استند إليها في عريضة الطعن - "قبول الطعن شكلاً، وإلغاء الحكم المطعون فيه، والقضاء بعدم قبول الدعوى، وإلزام الوزارة بالمصروفات". وقد أعلن هذا الطعن للحكومة في 9 من فبراير سنة 1958، وللمطعون لصالحه في 16 من فبراير سنة 1958، وعين لنظره جلسة 22 من مارس سنة 1958، وفيها سمعت المحكمة ما رأت سماعه من إيضاحات على الوجه المبين بمحضر الجلسة، ثم أرجأت النطق بالحكم لجلسة اليوم.


المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق وسماع الإيضاحات وبعد المداولة.
من حيث إن الطعن قد استوفى أوضاعه الشكلية.
ومن حيث إن عناصر هذه المنازعة، حسبما يبين من الأوراق، تتحصل في أن وزارة التربية والتعليم أقامت الدعوى رقم 1064 لسنة 10 قضائية بعريضة أودعها سكرتارية محكمة القضاء الإداري في 8 من مارس سنة 1956، قالت فيها إنه في 18 من إبريل سنة 1952 تعاقدت منطقة بني سويف التعليمية مع المدعى عليه على تأجير مقصف المنطقة إليه لمدة سنة تبدأ من أول يوليه سنة 1952 وتنتهي في 30 من يونيه سنة 1953 نظير مبلغ 100 م و10 ج إيجاراً شهرياً، حسب المزاد الذي أجرته المنطقة بجلسة 17 من يونيه سنة 1952، على أن يدفع الإيجار في اليوم الخامس من كل شهر، وعلى أن يدفع تأميناً قدره 120 م و12 ج. وقام المدعى عليه بعمله في المقصف حتى شهر إبريل سنة 1953، حيث قدم طلباً للمنطقة بإعفائه من دفع الإيجار عن المدة من 14 من مايو حتى 10 من يونيه سنة 1953، وهي الفترة التي يقع خلالها شهر رمضان المبارك؛ بحجة أن المقصف سيغلق خلال شهر الصوم لانعدام نشاطه. كما قدم المدعى عليه طلباً موقعاً عليه من موظفي المنطقة بطلب غلق البوفيه أثناء شهر رمضان المبارك، وقام فعلاً بإغلاقه فيه. وقالت الوزارة إن المنطقة لم تطلب من المدعى عليه إغلاق المقصف، وإنما قام هو بذلك تحقيقاً لرغبة موظفي المنطقة، وقد تم التعاقد بينه وبين المنطقة التعليمية، فلا شأن لموظفيها في ذلك، والعقد شريعة المتعاقدين وحدهم، وليس في عقد الإيجار ما يسمح له بإغلاق البوفيه في أي شهر من السنة، ولا ما يجيز له بالتالي عدم دفع الإيجار، وجملة الإيجار محملة على اثني عشر شهراً، والمدعى عليه كان يعلم عند التعاقد أن مدة الإيجار سوف يتخللها شهر الصوم؛ ولذلك فقد طالبته المنطقة بدفع الإيجار كاملاً عن شهر رمضان، وكتبت إليه ليدفعه، ولكنه امتنع عن الوفاء. ثم قدم إقراراً في 16 من يونيه سنة 1953 بقبوله تحصيل المبالغ التي له طرف موظفي المنطقة خصماً مما عليه من الإيجار. وفعلاً قام مندوب المصلحة بتحصيلها فبلغت 700 م و6 ج مضافاً إليها 120 م و12 ج قيمة التأمين المقدم منه، وجملة المبالغ المتأخرة عليه من إيجار الأشهر الثلاثة (إبريل ومايو ويونيه) هو مبلغ 300 م و30 ج؛ فيكون الباقي عليه والمطلوب الوفاء به هو 480 م و11 ج، وقد طالبته الوزارة مراراً بسداده دون جدوى. وطلبت الوزارة المدعية الحكم بإلزام المدعى عليه بأن يدفع لها مبلغ 480 م و11 ج والمصروفات ومقابل الأتعاب. وقدمت حافظة بمستنداتها من بينها العقد الموقع عليه من الطرفين. وقد رد المدعى عليه بمذكرة طلب فيها الحكم برفض الدعوى، مع حفظ حقه في رفع دعوى ضد الوزارة المدعية بما له عليها من متأخرات. وقال إنه أغلق البوفيه في شهر رمضان المبارك تحقيقاً لمطلب جميع موظفي المنطقة، وقد أمره مراقب المنطقة التعليمية بالغلق. وقال إنه لم يكتب إقراراً بتحصيل هذه المبالغ المستحقة له قبل الموظفين، وإنما أصدر المراقب أمره بتحصيلها. وبجلسة 8 من سبتمبر سنة 1957 دفع الحاضر عن المدعى عليه بعدم قبول الدعوى لإغفال الوزارة اتباع نص المادة 851 من قانون المرافعات، استناداً إلى المادة 74 من القانون رقم 165 لسنة 1955 بشأن تنظيم مجلس الدولة. وبجلسة المرافعة قرر الحاضر عن الحكومة أن المادة 851 من قانون المرافعات لا تتفق مع الإجراءات المنصوص عليها في قانون مجلس الدولة الذي صدر بعد قانون المرافعات. وبجلسة أول ديسمبر سنة 1957 حكمت المحكمة "برفض الدفع بعدم قبول الدعوى، وبقبولها، وفي الموضوع بإلزام المدعى عليه بأن يدفع للوزارة مبلغ 480 م و11 ج والمصروفات". وانتهت محكمة القضاء الإداري إلى أن رفع الدعوى أمامها بالطريقة التي رسمها قانون مجلس الدولة رقم 165 لسنة 1955 في المادة 20 منه صحيح، ويكون الدفع بعدم قبولها لرفعها بغير اتباع الإجراءات التي نصت عليها المادة 851 وما بعدها من قانون المرافعات في غير محله، ويتعين رفضه، وفي الموضوع إلى أنه لا حق للمدعى عليه فيما يطلبه من استنزال ما يقابل شهر رمضان؛ إذ لم ينص العقد على شيء من ذلك ولم يقدم المدعى عليه الدليل على أن المنطقة التعليمية هي التي طلبت إليه غلق المقصف في الشهر المذكور وأن الموظفين لا صفة لهم في هذا الشأن، واستندت في أسباب حكمها فيما يتعلق بالدفع إلى أن مفاد نص المادة 74 من قانون مجلس الدولة هو ألا يرجع إلى الأحكام المنصوص عليها في قانون المرافعات إلا عند خلو قانون مجلس الدولة من نصوص خاصة، وأن القانون رقم 165 لسنة 1955 بشأن تنظيم مجلس الدولة قد بين كيفية رفع الدعاوى أمام مجلس الدولة، فنصت المادة 20 منه على أن "كل طلب يرفع لمجلس الدولة يجب أن يقدم لسكرتيرية المحكمة بعريضة موقعة من محامٍ مقيد بجدول المحامين المقبولين أمام المجلس، ثم بينت المواد 21 وما بعدها الإجراءات التي تتبع بعد إيداع عريضة الدعوى، وبينت إعلانها، وكيفية تهيئة الدعوى، ومواعيد إيداع المستندات وتبادل المذكرات وباقي الإجراءات الواجبة الاتباع إلى أن يتم الفصل في الدعوى، وأنه ظاهر من هذه المواد أن الدعوى تعتبر قائمة بمجرد إيداع عريضتها سكرتيرية المحكمة ويتولى المجلس باقي الإجراءات؛ فوكل بعضها لسكرتيرية المحكمة ووكل البعض الآخر لهيئة المفوضين. وأنه باستعراض نصوص الباب الخامس من قانون المرافعات الخاص باستيفاء الديون الثابتة بالكتابة والمبتدئ بالمادة 851 وما بعدها من القانون المذكور المعدلة بالقانونين رقمي 265 لسنة 1953 و485 لسنة 1953، يتبين أن هذه الأحكام إنما وضعت استثناءً من القواعد العامة التي وضعها قانون المرافعات، وأنه لرفع الدعاوى أمام جهات القضاء التي رتبها هذا القانون على مختلف درجاتها دون جهات القضاء الأخرى؛ ذلك أنه فضلاً عن أن النصوص الاستثنائية تطبق في حدودها، ولا يتوسع في تفسيرها ولا يقاس عليها، فإن القوانين الخاصة بالإجراءات إنما تختص بذات الجهة التي صدرت هذه القوانين في شأن تنظيم أعمالها ولا تمتد إلى جهة أخرى بغير نصوص خاصة. وأن قانون مجلس الدولة قد وضع لرفع الدعاوى أمامه قواعد هي ذاتها التي كانت القوانين السابقة لمجلس الدولة تنص عليها، وهذه القوانين جميعها وإن اختلفت فيما بينها في كيفية تحضير الدعوى بعد رفعها إلا أنها اتفقت على أن الدعوى تعتبر قائمة أمام المجلس بإيداع صحيفتها سكرتيرية المحكمة، وأن إعلانها وباقي إجراءاتها يتولاها المجلس بهيئاته المختلفة، وهذه القوانين تختلف عن القواعد العامة التي وضعها قانون المرافعات لمباشرة الدعاوى أمام المحاكم المدنية، وأن القواعد العامة التي نص عليها قانون المرافعات لرفع الدعاوى لا تسري على الدعاوى التي ترفع أمام مجلس الدولة، باعتبار أن قانون مجلس الدولة لم يخل من النص على قواعد رفع الدعوى؛ ومن ثم فإن القواعد التي أوردها قانون المرافعات استثناءً من قواعده العامة لا تسري أيضاً على المطالبات التي تقدم لمجلس الدولة؛ لأنه إذا كانت القاعدة الأصلية لا تنطبق فإن الاستثناء منها لا ينطبق من باب أولى، وأنه بالإضافة إلى ما تقدم يتضح من استعراض نصوص المواد 851 وما بعدها من قانون المرافعات أن هذه النصوص إنما وضعت على أساس نظام قضائي يختلف اختلافاً بيناً عن التنظيم القضائي لمجلس الدولة، وذلك أن هذه الإجراءات وضعت على أساس وجود هيئات قضائية لا مقابل لها في نظام مجلس الدولة، وذلك بما تضمنته هذه المواد من اختصاصات للقاضي الجزئي وللمحكمة الابتدائية، كما أن هذه القواعد تتعارض تعارضاً ظاهراً مع الأحكام التي نص عليها قانون مجلس الدولة، فمن ذلك ما نصت عليه المادة 853 من أن الأمر يعتبر بمثابة حكم غيابي، وما نصت عليه المادة 855 من جواز المعارضة في هذا الأمر خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ إعلانه، فإذا لم ترفع المعارضة في الميعاد يصبح الأمر بمثابة حكم حضوري، وما نصت عليه المادة 857 من أنه تسري على الأمر بالأداء وعلى الحكم الصادر في المعارضة فيه الأحكام الخاصة بالنفاذ المعجل حسب الأحوال التي بينها القانون. وهذه النظم والقواعد كلها غريبة على النظم والقواعد المعمول بها في مجلس الدولة طبقاً لقانون تنظيمه، وأن الأخذ بنظام أوامر الأداء في مجلس الدولة يؤدي في مسائل العقود خاصة إلى تغيير نظام التحضير الذي عنى قانون مجلس الدولة به من حيث وجوب تهيئة الدعوى في هيئة المفوضين قبل تحديد جلسة لنظرها؛ إذ لو أجيز هذا النظام فما على كل من له مطالبة مستنداً إلى عقد مكتوب إلا أن يتقدم للمجلس طالباً صدور أمر بالأداء، سواء توافرت في مطالبته الشروط التي نص عليها قانون المرافعات في المادة 851 منه أم لا، وما على رئيس الدائرة الذي يعرض عليه هذا الطلب إلا أن يجيب هذا الطلب أو يرفضه ويحدد جلسة لنظر الموضوع، فإن أجابه فلصاحب الشأن أن يعارض فيه، ويعرض الموضوع مباشرة على المحكمة، وفي الحالين تشل إجراءات تحضير الدعوى في هيئة المفوضين، وتحضير الدعوى في الجلسات، وهذا غير ما أراده المشرع من إجراءات التحضير التي نظمها في قانون مجلس الدولة.
ومن حيث إن مبنى الطعن أن القواعد الخاصة بأوامر الأداء لم تكن تستهدف أساساً التيسير على الدائن بقدر ما تستهدف تبسيط الإجراءات في مطالبة هي أوضح من أن تكون محلاً للإجراءات المطولة المعروفة في المطالبات العادية متى كان المبلغ المطالب به ثابتاً بالكتابة، باعتبار أن الدليل الكتابي يعتبر الآن في دائرة المعاملات المالية من أقوى الأدلة في إثبات الحق، فكان معقولاً جداً أن تتميز هذه المطالبة بنظام آخر من شأنه أن يجعل لهذا السند الكتابي - بطريقة سهلة ميسورة - القوة التنفيذية، وكان أن دفعت تلك الأفكار التي استوحاها المشرع إلى خلق نظام يحقق الأغراض التي استهدفها دون أن تحرم المدين في الوقت ذاته إن كان عنده ما يدفع به الدين من أن يطعن في الأمر الصادر بأدائه حسب الأوضاع المرسومة، وهذا الذي استوحاه المشرع لا شك يحقق هدفه في جميع المنازعات التي يكون سندها دليلاً كتابياً، ما دام قد توافرت لها شروط أداء الدين، لا فرق في ذلك بين أن تكون المنازعة مدنية أو إدارية.
ومن حيث إن المادة 74 من القانون رقم 165 لسنة 1955 بشأن تنظيم مجلس الدولة - إذ نصت على أن "تطبق الإجراءات المنصوص عليها في هذا القانون. وتطبق أحكام قانون المرافعات فيما لم يرد فيه نص وذلك إلى أن يصدر قانون الإجراءات الخاصة بالقسم القضائي" - قد جعلت الأصل هو وجوب تطبيق الإجراءات المنصوص عليها في قانون تنظيم مجلس الدولة، والاستثناء هو تطبيق أحكام قانون المرافعات فيما لم يرد فيه نص في القانون المشار إليه. وغني عن البيان أن أحكام قانون المرافعات لا تطبق في المنازعات الإدارية إذا كانت هذه الأحكام تتعارض نصاً أو روحاً مع أحكام قانون تنظيم مجلس الدولة، سواء في الإجراءات أو في أصول النظام القضائي بمجلس الدولة.
ومن حيث إن نظام استيفاء الديون الثابتة بالكتابة المستحدث في الباب الخامس من الكتاب الثالث من قانون المرافعات المدنية والتجارية المعدل بالقانونين رقمي 265 لسنة 1953 و485 لسنة 1953، كما يبين من نصوصه في ضوء المذكرات الإيضاحية لهذه القوانين، هو وثيق الصلة بل يقوم أساساً على نظام الأحكام الغيابية وجواز المعارضة فيها؛ فقد استهدف المشرع بأوامر الأداء - وإن صدرت على عريضة - أن تكون بمثابة أحكام غيابية، في ديون كانت تنتهي عادة بأحكام غيابية وتندر المعارضة فيها، فأجاز مبدأ استصدار أمر الأداء بدل عرض النزاع على المحكمة ابتداءً وتعطيل نظر القضايا الأخرى، ولكنه قرر في الوقت ذاته، كمبدأ مكمل لهذا النظام ومتلازم مع المبدأ الأول، جواز المعارضة في أمر الأداء، فإذا لم ترفع المعارضة في الميعاد أصبح أمر الأداء بمثابة حكم حضوري م 855. وغني عن القول أن هذا النظام يتعارض صراحة مع قانون مجلس الدولة في أصول نظامه القضائي الذي لا يسمح بالمعارضة في الأحكام الصادرة منه بهيئة قضاء إداري. والحق أن استبعاد فكرة الحكم الغيابي وجواز المعارضة فيه من النظام القضائي بمجلس الدولة هو النتيجة المنطقية التي تتحاذى مع نظام إجراءات التقاضي أمامه وتترتب عليه؛ إذ يقوم هذا النظام أساساً على مبدأ المرافعات التحريرية في مواعيد محددة منضبطة يستطيع ذوو الشأن فيها أن يقدموا مذكراتهم كتابة مع مستنداتهم، كما جعل تحضير الدعوى وتهيئتها للفصل فيها منوطاً بهيئة مفوضي الدولة وألزمها إيداع تقرير تحدد فيه وقائع الدعوى والمسائل القانونية التي يثيرها النزاع وإبداء الرأي في ذلك مسبباً، كل ذلك قبل تعيين جلسة لنظر الدعوى، وفيها يصدر الحكم علناً، وليس من حق ذوي الشأن أن يصروا أمام المحكمة على طلب المرافعة الشفوية؛ لأن المرافعات التحريرية في المواعيد القانونية هي الأساس كما سلف القول، وإنما لرئيس المحكمة أن يطلب إليهم أو إلى المفوض ما يراه لازماً من إيضاحات. وغني عن البيان كذلك أن النظام الإجرائي لاستيفاء الديون الثابتة بالكتابة يتعارض أساساً مع النظام الإجرائي المنصوص عليه في قانون تنظيم مجلس الدولة سواء من حيث كيفية رفع الدعوى أو تبادل الدفاع التحريري من ذوي الشأن أو أداء هيئة مفوضي الدولة وظيفتها؛ ولهذا كله وللأسباب الأخرى التي استند إليها الحكم المطعون فيه يكون الطعن غير قائم على أساس سليم، متعيناً رفضه.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بقبول الطعن شكلاً، وبرفضه موضوعاً.