مجلس الدولة - المكتب الفني - مجموعة المبادئ القانونية التي قررتها المحكمة الإدارية العليا
السنة الثالثة - العدد الثالث (من أول يونيه إلى آخر سبتمبر سنة 1958) - صـ 1422

(151)
جلسة 14 من يونيه سنة 1958

برياسة السيد/ السيد علي السيد رئيس مجلس الدولة وعضوية السادة السيد إبراهيم الديواني وعلي إبراهيم بغدادي والدكتور محمود سعد الدين الشريف والدكتور ضياء الدين صالح المستشارين.

القضية رقم 692 لسنة 3 القضائية

( أ ) موظف - وقفه عن العمل لاتهامه بارتكاب جنايات تزوير واختلاس - قرار مجلس التأديب باستمرار وقفه - إشارة المجلس في منطوق القرار إلى أن الوقف موقوت بانتهاء تحقيق النيابة العامة - عرضه في أسبابه إلى أن مصلحة التحقيق تقتضي استمرار الوقف - ذلك مؤداه استمرار الوقف حتى يتم الفصل فيما نسب إليه من جرائم - القول بأن الوقف ينتهي بمجرد إحالته إلى المحاكمة الجنائية - انطواؤه على مسخ لفحوى القرار ومجافاة لمفاد النصوص.
(ب) موظف - وقفه عن العمل - ليس في النصوص ما يؤدي إلى جعل قرار الوقف كأن لم يكن لعدم عرضه حالاً على السلطة التأديبية المختصة(1).
(ج) موظف - وقفه عن العمل - الأصل هو حرمانه من مرتبه مدة الوقف - الاستثناء جواز صرف مرتبه كله أو بعضه - يستوي في ذلك الموظف الموقوف لحبسه احتياطياً والموقوف لتهمة إدارية - المادتان 95 و96 من قانون نظام موظفي الدولة(2).
1 - متى كان الثابت أن المدعي - وهو موظف عمومي - اتهم بارتكاب تزوير في أوراق أميرية أثناء تأدية وظيفته، وبالاشتراك مع آخرين في ارتكاب جريمة اختلاس أموال أميرية، وتولت النيابة التحقيق، ثم أحالت الدعوى إلى غرفة الاتهام التي أحالتها بدورها إلى محكمة الجنايات، وكانت المصلحة قد قررت وقفه احتياطياً عن العمل اعتباراً من 14 من مارس سنة 1953، ثم عرضت الأوراق على مجلس التأديب طالبة استمرار وقفه، فقرر بجلسته المنعقدة في 30 من يوليه سنة 1953 استمرار وقفه وقفاً موقوتاً بانتهاء التحقيق المشار إليه، كما قرر المجلس استمرار وقف صرف مرتبه، وجاء في أسباب هذا القرار أن الثابت من الأوراق أن المنسوب إلى كل من هذين الموظفين هو الاستيلاء على مبالغ من قيمة المكالمات الزائدة بتليفونات الإسكندرية نتيجة تزويرهما في فواتير المشتركين، وأن التحقيق في هذه الوقائع المنسوبة إليهما لا يزال مستمراً بالنيابة المختصة، وأن الأول منهما لا يزال محبوساً حبساً احتياطياً على ذمة القضية، وأن مجلس التأديب يرى لذلك "أن مصلحة التحقيق مع الموظفين المذكورين في هذه القضية تقضي باستمرار وقف كل منهما" - إذا كان الثابت هو ما تقدم، فإن الواضح أن المقصود من هذا القرار - بحسب فحواه على هدي أسبابه - هو استمرار وقف المدعي حتى يفصل فيما هو منسوب إليه من اختلاس وتزوير، وهي تهم لو صحت لانطوت على مخالفات إدارية فضلاً عن اقتراف جرائم. فالمقصود من القرار والحالة هذه، هو استمرار الوقف حتى ينحسم هذا الموقف المعلق، وهو لا ينحسم إلا بعد إتمام التحقيق الذي تتولاه النيابة العامة، ثم الفصل في التهم بعد ذلك بوساطة جهات القضاء المختصة، وهذا هو التأويل الذي يتسق مع طبائع الأشياء ومع الحكمة التشريعية التي قامت عليها النصوص الخاصة بوقف الموظف ووقف مرتبه خلال هذا الموقف المعلق. فتأويل الحكم المطعون فيه لفحوى قرار مجلس التأديب بأن المقصود منه هو انتهاء الوقف بإحالة المدعي إلى محكمة الجنايات يكون - والحالة هذه - مسخاً لفحوى القرار، بما يخرجه عن الفهم الطبعي إلى فهم واضح الشذوذ لا يتسق مع مفاد النصوص على هدي الصالح العام وبمراعاة مقتضيات النظام الإداري وحسن سير المرافق.


إجراءات الطعن

في 25 من إبريل سنة 1957 أودع السيد رئيس هيئة المفوضين طعناً في الحكم الصادر من المحكمة الإدارية بالإسكندرية بجلسة 5 من مارس سنة 1957 في الدعوى رقم 848 لسنة 3 ق المرفوعة من عبد الحميد إبراهيم العيسوي ضد مصلحة التليفونات والتلغرافات، والذي يقضي "باستحقاق المدعي لصرف مرتبه من تاريخ صدور قرار النيابة العامة بإحالته إلى المحاكمة الجنائية، مع إلزام الجهة الإدارية المصاريف المناسبة، ورفض ماعدا ذلك من الطلبات". وطلب السيد رئيس هيئة مفوضي الدولة - للأسباب التي استند إليها في صحيفة الطعن - "الحكم بقبول الطعن شكلاً، وفي الموضوع بإلغاء الحكم المطعون فيه، والقضاء برفض الدعوى، مع إلزام المدعي بالمصروفات". وقد أعلن الطعن للحكومة في 12 من يونيه سنة 1957، وللخصم في 17 منه، وعين لنظره جلسة 3 من مايو سنة 1958، وفيها سمعت المحكمة ما رأت سماعه من الإيضاحات، ثم أرجأت النطق بالحكم لجلسة اليوم.


المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق وسماع الإيضاحات وبعد المداولة.
من حيث إن الطعن قد استوفى أوضاعه الشكلية.
ومن حيث إن عناصر هذه المنازعة تتحصل، حسبما يبين من الأوراق، في أن المدعي أقام الدعوى رقم 848 لسنة 3 ق بصحيفة أودعها سكرتارية المحكمة الإدارية بالإسكندرية في 8 من سبتمبر سنة 1956 مع قرار إعفائه من الرسوم القضائية، طلب فيها الحكم باستحقاقه العودة إلى الخدمة من 14 من يونيه سنة 1953، وهو التاريخ التالي لانقضاء الثلاثة الأشهر التي صدر بها قرار وقفه عن عمله، وما يترتب على ذلك من آثار، واحتياطياً الحكم باستحقاقه مرتبه من ذلك التاريخ، وإلزام الجهة الإدارية بالمصروفات ومقابل الأتعاب. وقال - شرحاً لدعواه - إنه وقف عن عمله في 14 من مارس سنة 1953، مع وقف صرف مرتبه إثر تحقيق أجري معه في شأن تلاعب بقسم المخابرات بمصلحة التليفونات، وانتقل التحقيق للنيابة العمومية التي انتهت إلى قرار في صالحه. ومع ذلك لم تتخذ الإدارة أي إجراء في مواجهته، ثم علم عفواً أن ثمة مجلس تأديب العقد على غير علم منه في 30 من يوليه سنة 1953 وقرر استمرار وقفه عن العمل ووقف صرف مرتبه. وأضاف المدعي أن المادة 95 من القانون رقم 210 لسنة 1951 لا تجيز وقف الموظف أكثر من ثلاثة أشهر إلا بقرار من مجلس التأديب، كما تقضي المادة 52 من اللائحة التنفيذية للقانون المذكور بعرض موضوع الموظف الذي يوقف عن عمله بعد ثلاثة أشهر على مجلس التأديب للنظر في استمرار الوقف، فإذا لم يصدر المجلس قراراً بالمد يعود الموظف إلى عمله من اليوم التالي لانقضاء الثلاثة الأشهر، ويصرف مرتبه ابتداءً من تاريخ عودته. واستطرد المدعي إلى أن الإدارة لم تراع في عقد مجلس التأديب الذي قرر استمرار إيقافه الإجراءات والمواعيد المنصوص عليها في المادة 89 وما بعدها من القانون رقم 210 لسنة 1951، وقال إن إغفال هذه الإجراءات يجعل اجتماع مجلس التأديب باطلاً وقراراته عديمة الأثر. وأياً كان الرأي في مدى مشروعية ذلك الاجتماع فإنه لم ينعقد إلا في 30 من يوليه سنة 1953، أي بعد حوالي ثلاثة أسابيع من انقضاء الثلاثة الأشهر التي صدر بها قرار وقف المدعي. وأجابت مصلحة التليفونات على ذلك بأن المدعي وقف عن عمله في 14 من مارس سنة 1953 لاتهامه بالتلاعب في حسابات المخابرات الخارجية (الترنك)، وأبلغ الأمر إلى النيابة العامة، وقيد الاتهام جناية تحت رقم 874 لسنة 1956 المنشية (214) كلي ضد المدعي وآخرين عن تهمة اختلاس وتزوير، وأحيل إلى محكمة جنايات الإسكندرية ثم إلى محكمة استئناف الإسكندرية في 26 من إبريل سنة 1956، ولم يفصل في الجناية بعد، وقالت المصلحة إن نص المادة 95 من القانون رقم 210 لسنة 1951 قد طبق تماماً على المدعي؛ إذ عرض أمره على مجلس تأديب مصلحة السكة الحديد في 21 من يونيه سنة 1953، فأصدر قراره بعدم اختصاصه، وأحال الموضوع إلى المجلس المختص بمصلحة التليفونات فأصدر قراره في 30 من يوليه سنة 1953 باستمرار وقف المدعي مع وقف صرف مرتبه، ولم يطعن المدعي في هذا القرار رغم علمه به. وأضافت المصلحة أنه تقرر إحالة المدعي إلى مجلس التأديب في 18 من مارس سنة 1957 لمحاكمته عن الوقائع المنسوبة إليه في قضية الجناية رقم 874 لسنة 1956 جنايات المنشية. وبجلسة 5 من مارس سنة 1957 حكمت المحكمة الإدارية بالإسكندرية "باستحقاق المدعي لصرف مرتبه من تاريخ صدور قرار النيابة العامة بإحالته إلى المحاكمة الجنائية، مع إلزام الجهة الإدارية بالمصروفات المناسبة، ورفض ماعدا ذلك من الطلبات". وأقامت قضاءها على أن الطلب الأصلي للمدعي إنما هو في حقيقته طلب إلغاء قرار مجلس التأديب الصادر باستمرار وقفه عن العمل، وهذا القرار يخرج من اختصاص المحكمة، أما بالنسبة للطلب الاحتياطي فإنه منازعة في راتب، والدعوى بهذه المثابة دعوى تسوية لا تتقيد بميعاد الطعن بالإلغاء. ثم عرضت المحكمة الإدارية بالإسكندرية لحكم المادة 95 من القانون رقم 210 لسنة 1951، وكذلك لحكم المادة 52 من اللائحة التنفيذية لهذا القانون، وقالت "إن النص على ألا تزيد مدة الوقف عن ثلاثة أشهر إلا بقرار من مجلس التأديب قصد منه نقل الاختصاص من سلطة إلى أخرى". وأن القول، بأن عدم عرض الأمر على هذا المجلس وعدم صدور قراره قبل انقضاء الثلاثة الأشهر من مقتضاه أن يكون القرار باطلاً قول غير سديد؛ إذ ليس في المادتين ما يترتب عليه مثل هذا الجزاء. ثم استطردت المحكمة قائلة "إن قرار مجلس التأديب في 30 من يوليه سنة 1953 جعل وقف المدعي عن العمل ووقف صرف مرتبه موقوتاً بانتهاء تحقيق النيابة. وإذا كان من الثابت أن النيابة قد انتهت من التحقيق، وأحيل الموضوع على القضاء، ولم ينعقد مجلس التأديب بعد ذلك للنظر في أمر المدعي، فقد كان ينبغي على الجهة الإدارية أن تعيد المدعي إلى عمله بمجرد إحالة القضية إلى المحكمة، وذلك تنفيذاً لقرار مجلس التأديب. ولما كان المدعي غير محبوس حبساً احتياطياً، ولم تعده جهة الإدارة إلى عمله فقد استحق مرتبه من ذلك التاريخ".
ومن حيث إن مناط الطعن في الحكم يتمثل في مفهوم قرار مجلس التأديب الذي استخلصته المحكمة الإدارية بالإسكندرية وأقامت عليه قضاءها؛ فقد وقف كل من المدعي وشريك له عن العمل لما نسب إليهما من الاستيلاء على مبالغ من قيمة المكالمات الزائدة بتليفونات الإسكندرية نتيجة تزويرهما في فواتير المشتركين، ثم أحيل أمرهما على مجلس التأديب فقرر "استمرار وقف كل من علي محمد وصيف والمدعي وقفاً موقوتاً بانتهاء التحقيق المشار إليه، كما قرر المجلس استمرار وقف صرف مرتب كل منهما" وجاء في أسباب هذا القرار أن التحقيق عن الوقائع المنسوبة إليهما لا يزال مستمراً بالنيابة المختصة، وأن الأول منهما لا يزال محبوساً حبساً احتياطياً على ذمة هذه القضية، وأنه لذلك يرى المجلس أن مصلحة التحقيق مع الموظفين المذكورين في هذه القضية تقضي باستمرار وقف كل منهما؛ فيكون مفهوم هذا القرار، وخاصة كان أحد المتهمين محبوساً حبساً احتياطياً وقت صدوره، أن المقصود بانتهاء التحقيق النتيجة التي انتهت إليها من حيث القضاء بالإدانة أو بالبراءة، والقول بغير بذلك مؤداه أن الإحالة إلى محكمة الجنايات ينبني عليها انتهاء وقف الموظف عن عمله وإعادة المتهم إلى الوظيفة، وهو أمر بالغ التناقض واضح الشذوذ، مما لا يمكن أن يحمل عليه قرار مجلس التأديب المشار إليه؛ وإذ ذهب الحكم المطعون فيه غير هذا المذهب فإنه يكون قد خالف القانون، ويتعين الطعن فيه بالإلغاء.
ومن حيث إنه يبين من الاطلاع على الأوراق ومن ملف خدمة المدعي أنه اتهم بصفته موظفاً عمومياً (رئيس قسم المخابرات الخارجية بمصلحة التليفونات بالإسكندرية وهو في الدرجة السابعة الكتابية) بأنه في خلال المدة من 11 من يناير سنة 1951 إلى 11 من ديسمبر سنة 1953 بدائرة قسم المنشية بمحافظة الإسكندرية ارتكب في أثناء تأدية وظيفته تزويراً في أوراق أميرية (كشوف المخابرات الخارجية) وذلك بتغيير بياناتها، بأن عدل أرقام المبالغ المستحقة على المشتركين واستبدل بها أرقاماً أخرى غير حقيقية لمبالغ تزيد عن المبالغ المستحقة فعلاً واتهم أيضاً بأربع جرائم جنائية أخرى من درجة خطورة الأولى؛ بأن ارتكب تزويراً في سجلات مستحقات المخابرات الخارجية (نموذج رقم 87) حال تحريرها، وذلك بجعله واقعة مزورة في صورة واقعة صحيحة مع علمه بتزويرها. كما ارتكب تزويراً في أوراق أميرية هي كشوف تحصيل الخزينة (نموذج رقم 15) حال تحريرها؛ وذلك بأن أثبت ببعض صفحات هذه الكشوف حساب المبالغ المسددة من المشتركين وأدخل عليها بيانات غير صحيحة بشأن المبالغ المسددة منهم وأسقط فيه بعضها، ومنها أرقام تقل عن المبالغ الحقيقية التي سددها أصحابها. كما أنه اشترك بطريق الاتفاق مع حسين حسين المتهم الثاني وميشيل كاغاس المتهم الثالث في الدعوى الجنائية في اختلاس مبلغ 755 م و379 ج من أجور المخابرات الخارجية المسلمة إليهما بصفتهما من مأموري التحصيل، بأن اتفق معهما على اختلاسها، فوقعت الجناية بناءً على هذا الاتفاق، وكذلك اشترك بطريق الاتفاق مع مجهول من صرافي خزينة مصلحة التليفونات في اختلاس مبلغ 265 م و43 ج من أجور المخابرات الخارجية المسلمة لهذا الصراف بصفته من مأموري التحصيل، بأن اتفق معه على اختلاسها. وقد باشرت لجنة من مصلحة التليفونات التحقيق في هذه الوقائع بمجرد افتضاح أمرها، وأبلغت النيابة العامة بالواقعة فتولت التحقيق بمعرفتها، وقيدت الدعوى جناية برقم 874 جنايات المنشية سنة 1956، وقدمت الدعوى لغرفة الاتهام التي أحالتها بدورها إلى محكمة الجنايات لمحاكمة المدعي ومن معه من المتهمين عن الجنايات المنسوبة إليهم، ولم يفصل فيها بعد.
ومن حيث إن المصلحة قررت وقف المدعي احتياطياً عن العمل اعتباراً من 14 من مارس سنة 1953 استناداً إلى السلطة المخولة بمقتضى المادة 95 من القانون رقم 210 لسنة 1951 الخاص بنظام موظفي الدولة، وكانت هذه المادة تنص قبل تعديلها بالقرار بقانون رقم 73 لسنة 1957 على أن "لوكيل الوزارة أو لرئيس المصلحة كل في دائرته اختصاصه أن يوقف الموظف عن عمله احتياطياً إذا اقتضت مصلحة التحقيق معه ذلك، ولا يجوز أن تزيد مدة الوقف عن ثلاثة أشهر إلا بقرار من مجلس التأديب، ويترتب على وقف الموظف عن عمله وقف صرف مرتبه ابتداءً من اليوم الذي أوقف فيه ما لم يقرر مجلس التأديب صرف المرتب كله أو بعضه". وسبق أن قضت هذه المحكمة بأنه إذا وقف الموظف عن العمل فالأصل هو حرمانه من المرتب مدة الوقف، والاستثناء هو صرفه كله أو بعضه حسبما تقرره السلطة التأديبية، وهذه القاعدة تسري أياً كان سبب الوقف، وأياً كانت طبيعة الوظيفة، وإن اختلفت أوضاع التأديب وإجراءاته، يستوي في ذلك الموظف الموقوف لحبسه احتياطياً، وذلك الذي وقف لتهمة إدارية. وهذا الأصل قد رددته المادتان 95 و96، والحكمة ظاهرة في ترك تقدير صرف المرتب كله أو بعضه أو عدم صرفه إلى السلطة التأديبية المختصة في كل حالة على حدتها وبظروفها، بالبراءة لعدم الصحة أو لعدم الجناية تختلف عن البراءة لعدم كفاية الأدلة في هذا التقدير، والبراءة من التهمة الجنائية لا تستتبع حتماً عدم المؤاخذة الإدارية، وليس من شك في أن السلطة التأديبية تصدر قرارها في صرف المرتب أو عدم صرفه على مقتضى هذه الاعتبارات. كما قضت هذه المحكمة كذلك بأنه لا وجه للقول بأن وقف الموظف عن العمل أو وقف صرف مرتبه يعتبر كأنه لم يكن بحجة عدم عرض الأمر حالاً على السلطة التأديبية؛ لأنه ليس في النصوص ما يرتب مثل هذا الجزاء، وإنما غاية الأمر أنه ما دام القانون قد ناط بالسلطة التأديبية المختصة النظر في استمرار وقفه أو عدم استمراره وفي تقدير صرف مرتبه كله أو بعضه مدة الوقف أو عدم صرفه فإنه يتعين الرجوع إلى هذه السلطة لتقرير ما تراه، ويعتبر المركز القانوني في هذا الشأن معلقاً حتى يصدر القرار فيه.
ومن حيث إن المصلحة قد عرضت موضوع طلبها الخاص باستمرار وقف المدعي على مجلس التأديب الخاص بمصلحة السكك الحديدية وتليفونات وتلغرافات الحكومة وذلك بكتابها رقم 658/ 1/ 72 في 18 من مايو سنة 1953، وأن مجلس التأديب المذكور قرر في 21 من يونيه سنة 1953 عدم اختصاصه بنظر الاتهام؛ لأن المدعي ليس موظفاً بمصلحة السكة الحديد، وأمرت بإحالته إلى الجهة التأديبية المختصة لنظرها أمام المجلس المختص، نظراً لفصل مصلحة التلغرافات والتليفونات عن مصلحة السكة الحديد، وقد تم عرض أمر استمرار وقفه على مجلس تأديب مصلحة التليفونات فقرر بجلسته المنعقدة في 30 من يوليه سنة 1953 "استمرار وقف كل من علي محمد وصيف وعبد الحميد إبراهيم العيسوي - المدعي - وقفاً موقوتاً بانتهاء التحقيق المشار إليه، كما قرر المجلس استمرار وقف صرف مرتب كل منهما". وجاء في أسباب هذا القرار أن الثابت من الأوراق أن المنسوب إلى كل من هذين الموظفين هو الاستيلاء على مبالغ من قيمة المكالمات الزائدة بتليفونات الإسكندرية نتيجة تزويرهما في فواتير المشتركين، وأن التحقيق عن هذه الوقائع المنسوبة إليهما لا يزال مستمراً بالنيابة المختصة، وأن الأول منهما لا يزال محبوساً حبساً احتياطياً على ذمة هذه القضية، وأن مجلس التأديب يرى لذلك "أن مصلحة التحقيق مع الموظفين المذكورين في هذه القضية تقضي باستمرار وقف كل منهما". وواضح من ذلك أن المقصود من هذا القرار - بحسب فحواه على هدي أسبابه - هو استمرار وقف المدعي حتى يفصل فيما هو منسوب إليه من اختلاس وتزوير، وهي تهم لو صحت لانطوت على مخالفات إدارية فضلاً عن اقتراف جرائم، فالمقصود من القرار، والحالة هذه، هو استمرار الوقف حتى ينحسم هذا الموقف المعلق، وهو لا ينحسم إلا بعد إتمام التحقيق الذي تتولاه النيابة العامة، ثم الفصل في التهم بعد ذلك بوساطة جهات القضاء المختصة، وهذه هو التأويل الذي يتسق مع طبائع الأشياء ومع الحكمة التشريعية التي قامت عليها النصوص الخاصة بوقف الموظف ووقف مرتبه خلال هذا الموقف المعلق؛ فتأويل الحكم المطعون فيه على النحو الذي ساقه يكون، والحالة هذه، مسخاً لفحوى القرار بما يخرجه عن الفهم الطبعي إلى فهم واضح الشذوذ لا يتسق مع مفاد النصوص على هدي الصالح العام وبمراعاة مقتضيات النظام الإداري وحسن سير المرافق؛ وبهذه المثابة يكون الحكم المطعون فيه قد أخطأ في تأويل القانون وتطبيقه، ويتعين إلغاؤه، والقضاء برفض الدعوى.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بقبول الطعن شكلاً، وفي موضوعه بإلغاء الحكم المطعون فيه، وبرفض الدعوى، وألزمت المدعي بالمصروفات.


(1) المبدأ منشور بمجموعة السنة الأولى، س 867، بند 104.
(2) المبدأ منشور بمجموعة السنة الأولى، س 835، بند 101.