مجلس الدولة - المكتب الفني - مجموعة المبادئ القانونية التي قررتها المحكمة الإدارية العليا
السنة الثالثة - العدد الثالث (من أول يونيه إلى آخر سبتمبر سنة 1958) - صـ 1691

(173)
جلسة 12 من يوليه سنة 1958

برياسة السيد/ السيد علي السيد رئيس مجلس الدولة وعضوية السادة سيد علي الدمراوي والسيد إبراهيم الديواني وعلي إبراهيم بغدادي ومصطفى كامل إسماعيل المستشارين.

القضية رقم 929 لسنة 3 القضائية

( أ ) دستورية القوانين - عدم دستورية القانون إذا خالف نصاً دستورياً قائماً أو خرج على روحه ومقتضاه - مبدأ تدرج القواعد القانونية - وجوب تغليب القاعدة الأعلى في المرتبة على ما هو أدنى.
(ب) أحكام عرفية - القانون رقم 270 لسنة 1956 بإلغاء الأحكام العرفية - النص في المادة 3 على منع القضاء من سماع أى دعوى أو طلب أو دفع يكون الغرض منه الطعن على أى عمل أمرت به أو خولته السلطة القائمة على إجراء الأحكام العرفية - لا وجه للنعي عليه بعدم الدستورية بدعوى مصادرته لحق التقاضي أو إخلاله بالمساواة أو مخالفته للمادة 35 من دستور سنة 1956.
(ج) أحكام عرفية - المادة 3 من القانون رقم 270 لسنة 1956 - قيامها على اعتبارات تتعلق بالمصلحة العامة - دستوريتها من الناحية الموضوعية.
1 - إن القانون لا يكون غير دستوري إلا إذا خالف نصاً دستورياً قائماً أو خرج على روحه ومقتضاه؛ ومرد ذلك إلى أن الدستور - وهو القانون الأعلى فيما يقرره - لا يجوز أن تهدره أية أداة أدنى، وأن وظيفة القضاء هي تطبيق القانون فيما يعرض له من الأقضية. والمراد بالقانون هنا هو بمفهومه العام، أى كل قاعدة عامة مجردة أياً كان مصدرها، سواء أكان هذا المصدر نصاً دستورياً أم تشريعاً تقرره السلطة التشريعية المختصة بذلك، أم قراراً إدارياً تنظيمياً، وسواء أكان القرار الإداري التنظيمي صدر في شكل قرار جمهوري أو قرار وزاري ممن يملكه، أو كان قد صدر فيما سبق بمرسوم أو بقرار من مجلس الوزراء أو بقرار وزاري - يطبق القضاء كل هذه القواعد التنظيمية العامة المجردة على اختلاف ما بينها في المصدر وعلى تفاوت ما بينها في المرتبة، ولكن بمراعاة أن القانون يشوبه عدم الدستورية إذا خالف نصاً دستورياً قائماً أو خرج على روحه ومقتضاه كما سلف القول، بينما يشوب القرار الإداري العام عيب عدم المشروعية إذا خالف قاعدة تنظيمية صدرت بأداة أعلى مرتبة. فإذا تزاحمت في التطبيق هذه التشريعات أو التنظيمات جميعاً وقام بينها التعارض وجب على القضاء أن يطبق القاعدة الأعلى في المرتبة، فيغلب الدستور على القانون ويغلب القانون على القرار الإداري أياً كانت مرتبته، ويغلب القرار الإداري العام الأعلى مرتبة على ما هو أدنى منه؛ ذلك لأن المناط في الفصل عند التعارض هو أن الأعلى يسود الأدنى.
2 - إن القانون رقم 270 لسنة 1956 بإلغاء الأحكام العرفية التي كانت فرضت على البلاد من قبل بموجب المرسوم الصادر في 26 من يناير سنة 1952 قد تضمن في مادته الثالثة النص على أنه "لا تسمع أمام أية جهة قضائية أية دعوى أو طلب أو دفع يكون الغرض منه الطعن في أى إعلان أو تصرف أو أمر أو تدبير أو قرار، وبوجه عام أى عمل أمرت به أو تولته السلطة القائمة على إجراء الأحكام العرفية أو مندوبوها أو وزير المالية والاقتصاد أو أحد الحراس العامين أو مندوبيهم عملاً بالسلطة المخولة لهم بمقتضى نظام الأحكام العرفية، سواء أكان هذا الطعن مباشرة عن طريق المطالبة بإبطال شيء مما ذكر أو بسحبه أو بتعديله، أم كان الطعن غير مباشر عن طريق المطالبة بتعويض أو بحصول مقاصة أو بإبراء من تكليف أو التزام أو برد مال أو باسترجاعه أو باسترداده أو باستحقاقه أو بأى طريق آخر...". والنص المذكور قد جاء مضيقاً لاختصاص القضاء، مانعاً إياه من نظر المنازعات المشار إليها به بالطريق المباشر أو بالطريق غير المباشر، أى سواء بالإلغاء أو بالتعويض وما إليهما. وقد جرى قضاء هذه المحكمة في مثل هذه الحالة على أنه لا وجه للنعي بعدم الدستورية بدعوى مصادرة حق التقاضي؛ إذ تجب التفرقة بين المصادرة المطلقة لحق التقاضي عموماً وبين تحديد دائرة اختصاص القضاء. وإذا كان لا يجوز من الناحية الدستورية حرمان الناس كافة من الالتجاء إلى القضاء؛ لأن في ذلك مصادرة لحق التقاضي، وهو حق كفل الدستور أصله؛ إذ تكون مثل هذه المصادرة بمثابة تعطيل لوظيفة السلطة القضائية، وهي سلطة أنشأها الدستور لتمارس وظيفتها في أداء العدالة مستقلة عن السلطات الأخرى - لئن كان ذلك كما تقدم، إلا أنه لا يجوز الخلط بين هذا الأمر وبين تحديد دائرة اختصاص القضاء بالتوسيع والتضييق؛ إذ النصوص الدستورية تقضي بأن القانون هو الذي يرتب جهات القضاء ويعين اختصاصاتها، وبهذا نصت المادة 125 من دستور سنة 1923 والمادة 176 من دستور جمهورية مصر، وينبني على ذلك أن كل ما يخرجه القانون من اختصاص القضاء يصبح معزولاً عن نظره. وهذا أصل من الأصول الدستورية المسلمة، وقديماً قالوا إن القضاء يتخصص بالزمان والمكان والخصومة؛ وعلى هذا الأصل الدستوري صدرت التشريعات الموسعة أو المضيقة لولاية القضاء في جميع العهود، وفي شتى المناسبات وفي ظل جميع الدساتير، كما لا وجه كذلك للنعي عليه بأنه ينطوي على إخلال بمبدأ المساواة أمام القانون والقضاء؛ لأن المقصود بالمساواة في هذا الشأن من الناحية الدستورية هو عدم التمييز بين أفراد الطائفة الواحدة إذا تماثلت مراكزهم القانونية، ولم يتضمن القانون المشار إليه أى تمييز من هذا القبيل بين من تنطبق عليهم أحكامه؛ إذ المنع من سماع الدعوى عام بالنسبة إلى الناس كافة، كما لا وجه في هذا الصدد للاحتجاج بنص المادة 35 من دستور جمهورية مصر، التي تقضي بأن حق الدفاع أصالة أو بالوكالة يكفله القانون؛ لأن المقصود من ذلك هو عدم حرمان المتقاضي من حق الدفاع عن نفسه، ومن البداهة أن محل إعمال ذلك حيثما يكون التقاضي بدعوى متاحاًً قانوناً، أما إذا امتنع اختصاص القضاء بنظر دعوى فغني عن القول أنه لا يكون ثمة مجال لإعمال هذا النص فيها؛ ذلك أن لكل من الأصلين الدستوريين: الأصل الذي يسمح للسلطة التشريعية بتحديد دائرة اختصاص القضاء، والأصل الآخر الذي يكفل للمتقاضي في دعوى متاحة هي من اختصاص القضاء حق الدفاع أصالة أو بالوكالة - لكل من هذين الأصلين مجاله الخاص في التطبيق، فلا يجوز الخلط بينهما.
3 - لا ريب في دستورية الحكم الذي تضمنه نص المادة الثالثة من القانون رقم 270 لسنة 1956 من الناحية الموضوعية، ما دام يصدر به قانون عقب إلغاء نظام الأحكام العرفية، وفي الحق فقد كان يصدر مثل هذا القانون في أعقاب إلغاء نظام الأحكام العرفية الذي كان يفرض على البلاد في شتى المناسبات، كالقانون رقم 114 لسنة 1945 والقانون رقم 50 لسنة 1950، وكانت هذه القوانين تبرر ذلك الحكم في مذكراتها الإيضاحية بمثل ما بررته به المذكرة الإيضاحية للقانون رقم 270 لسنة 1956، وهي اعتبارات تتعلق بالمصلحة العامة، وبمراعاة أن نظام الأحكام العرفية هو نظام استثنائي فرض بحكم الضرورة، وأنه عقب إنهائه يكون - على حد التعبير الذي ورد في تقرير لجنة العدل بمجلس الشيوخ في شأن القانون رقم 114 لسنة 1945 - "من المصلحة العليا للبلاد إصدار تشريع يسدل به الستار على حالة استثنائية مضت وانتهى عهدها وصار من المصلحة العامة ألا تثار من جديد مشكلاتها التي لا حد لها، مع غض النظر عن بعض المصالح التي قد يكون أصابها ضرر من هذه التصرفات؛ تغليباً للمصلحة العامة على كل اعتبار؛ ولهذا شبه بقوانين التضمينات (Bill of indemnity) التي جرى العمل في البرلمان الإنجليزي على وضعها لتجعل من أعمال كانت غير مشروعة حين صدورها أعمالاً مشروعة، ومن أعمال معاقب عليها أعمالاً يتناولها العقاب. وكل ذلك رعاية للمصلحة العامة".


إجراءات الطعن

في 18 من أغسطس سنة 1957 أودع السيد رئيس هيئة مفوضي الدولة صحيفة طعن في الحكم الصادر من محكمة القضاء الإداري (الهيئة الأولى) بجلسة 25 من يونيه سنة 1957 في الدعوى رقم 317 لسنة 9 ق المرفوعة من الشيخ علي الحويطي وصلاح الدين سليمان الحويطي ضد وزارة الداخلية ومدير المنوفية ومأمور مركز أشمون، والقاضي "برفض الدفع بعدم جواز سماع الدعوى، وبسماعها، وفي الموضوع بإلغاء القرار من وزير الداخلية باعتقال المدعيين، وألزمت الحكومة بالمصروفات". وقد طلب السيد رئيس هيئة المفوضين - للأسباب التي استند إليها في طعنه - "الحكم بقبول الطعن شكلاً، وفي الموضوع بإلغاء الحكم المطعون فيه، وبعدم جواز سماع الدعوى، وإلزام المدعيين بالمصروفات". وقد أعلن الطعن إلى الحكومة في 26 من أغسطس سنة 1957، وإلى المدعيين في 31 من أغسطس سنة 1957، وعين لنظره جلسة 8 من فبراير سنة 1958، وقد أجلت لجلسة 19 من إبريل سنة 1958، ثم أجلت إدارياً لجلسة 3 من مايو سنة 1958، وقد سمعت المحكمة ما رأت سماعه من ملاحظات، ثم أرجئ إصدار الحكم لجلسة اليوم.


المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق وسماع الإيضاحات وبعد المداولة.
من حيث إن الطعن قد استوفى أوضاعه الشكلية.
ومن حيث إن عناصر هذه المنازعة تتحصل، حسبما هو ثابت من الأوراق، في أن المدعيين أقاما الدعوى رقم 317 لسنة 9 ق بطلب الحكم بصفة مستعجلة بوقف تنفيذ القرار الصادر باعتقالهما وترحيلهما إلى معتقل قنا، وفي الموضوع بإلغائه مع ما يترتب عليه من آثار، مع إلزام المدعى عليهم بالمصروفات، وقالا - شرحاً لدعواهما - إنه في 12 من نوفمبر سنة 1954 اعتقل بوليس مركز أشمون المدعيين بناءً على أمر السيد وزير الداخلية باعتبارهما من الخطرين على الأمن العام، استناداًًًًًًًً إلى تحريات المباحث المستقاة من رجال مباحث مركز أشمون وحدهم، وأن هؤلاء انساقوا وراء دعاية مغرضة كاذبة للإيقاع بهم، منتهزين فرصة إطلاق عيار ناري على سيارة السيد محمود رشاد النجار مع ثبوت عدم قيام صلة لهما بالحادث مع تقديمهما الدليل على حسن سيرتهما، وقد قام دفاع الحكومة على أن مركز أشمون طلب اعتقال المدعيين عسكرياً لشدة خطورتهما على الأمن، وجاء في تقرير المركز أن المدعي الأول اتهم في الجنحة رقم 224 أشمون سنة 1954 وفي الجناية 2973 جنايات أشمون سنة 1954، وأن المدعي الثاني اتهم في الجناية رقم 2973 سنة 1954 جنايات أشمون، وأنهما من الخطرين على الأمن العام ويرتكبان جرائم الإتلاف والحريق والقتل العمد والشروع فيه، ويخشى الأهالي اتهامهما لشدة بطشهما. وأن الأمر قد عرض على لجنة المديرية فرأت اعتقالهما عسكرياًًًًًًًًً، كما عرض أمرهما على لجنة شئون الخطرين في الوزارة فوافقت على ذلك، وصدر القرار في 9 من أكتوبر سنة 1954 باعتقالهما عسكرياً، وقد نظرت المحكمة طلب وقف التنفيذ، وقضت بجلسة 2 من فبراير سنة 1955 بوقف تنفيذ القرار المطعون فيه. وقد دفعت الحكومة بعدم سماع الدعوى استناداً إلى القانون رقم 270 سنة 1956 الذي نصت المادة الثالثة منه على عدم جواز الطعن في إجراء من الإجراءات التي يتخذها الحاكم العسكري تنفيذاًًًًًًًًًًًًًً للسلطة المخولة له بمقتضى الأحكام العرفية. وفي 25 من يونيه سنة 1957 أصدرت المحكمة حكمها برفض الدفع بعدم جواز سماع الدعوى وسماعها، وفي الموضوع بإلغاء القرار الصادر من وزير الداخلية باعتقال المدعيين، وألزمت الحكومة بالمصروفات. وقد أقامت المحكمة قضاءها على أن المنع من سماع الدعوى في أي تصرف أو أمر أو قرار صدر من السلطة القائمة على إجراء الأحكام العرفية سواء بالطريق المباشر أو غير المباشر على هذا النحو المطلق، هو إغفاء لهذه السلطة من أية مسئولية تترتب على تصرفاتها، تلك التي تقع مخالفة لقانون الأحكام العرفية ذاته، وحرمان الناس حرماناً مطلقاً من الالتجاء إلى القضاء، ولا شك أن في هذا إخلالاً بالحرية والمساواة وفي التكاليف والواجبات، وأن احترام المشروعية هو حق للمواطنين وأن إغلاق سبيل الطعن هو بمثابة منح الإدارة حق التحرر من قيود القانون، وأنه إذا كان قيداً محتملاً في ظل دستور سنة 1923 فإنه لا يستقيم مع نص المادة 35 من الدستور الجديد التي تقضي بأن "حق الدفاع أصالة أو بالوكالة يكفله القانون"، وفرق بين أن يكفل القانون الحق وأن يحرمه. وإذا كان المشرع يرى ضرورة تقتضي سرعة استقرار بعض القرارات الإدارية، فإن سبيل ذلك هو تنظيم طريق معين للطعن وتحقيق الأغراض السابقة، أما إغلاق كل سبيل للطعن القضائي فهو غير دستوري، فضلاً عن أنه لا مصلحة في حماية الأوضاع غير المشروعة. وترى المحكمة أن نص المادة الثالثة من القانون رقم 270 لسنة 1956 بعدم سماع دعاوى الإلغاء والتعويض غير دستوري، لأن الدعوى تتعلق بالحريات العامة التي كفلتها مبادئ الدستور العامة، وأنه لا مقنع فيما تبديه الحكومة من أن نص المادة 190 من الدستور، وقد جرى نصها على "أن كل ما قررته القوانين والمراسيم والأوامر واللوائح والقرارات من أحكام قبل صدور هذا القانون يبقى نافذاً ومع ذلك يجوز إلغاؤها أو تعديلها وفقاً للقواعد والإجراءات المقررة في هذا الدستور"، يقطع في دستورية المادة الثالثة من القانون رقم 270 لسنة 1956 - لا مقنع في ذلك؛ لأن هذه المادة تتعلق فقط - على ما يبين من نصها - ببيان مدى سريان أحكام القوانين والمراسيم والأوامر والقرارات القائمة وقتئذٍ من حيث الزمان بعد صدور الدستور الجديد، ومفهوم ذلك أن إعمال حكم المادة المذكورة لا يكون إلا بالنسبة للقوانين الصحيحة والنافذة عند صدور هذا الدستور، ومن ثم فلا ينطبق على نص غير دستوري. وأنه يقطع في صحة هذا النظر بالنسبة للمادة 190 من الدستور ما جرى عليه نص المادة 191 من الدستور نفسه إذ تقول "جميع القرارات التي صدرت من مجلس قيادة الثورة وجميع القوانين والقرارات التي تتصل بها وصدرت مكملة أو منفذة لها، وكذلك كل ما صدر من الهيئات التي أمر المجلس المذكور بتشكيلها من قرارات وأحكام وجميع الإجراءات والأعمال والتصرفات التي صدرت من هذه الهيئات، أو من أية هيئة أخرى من الهيئات التي أنشئت بقصد حماية الثورة ونظام الحكم لا يجوز الطعن فيها أو المطالبة بإلغائها أو التعويض عنها بأي وجه من الوجوه وأمام أي هيئة كانت"؛ وذلك لأن هذه المادة قد حددت على سبيل الحصر أنواع القوانين والقرارات والأحكام والإجراءات والأعمال والتصرفات التي لا يجوز الطعن فيها، ومن هذا يبين أن هنالك مادتين لكل منهما مجاله، ولو أراد الدستور تعيين جميع القوانين ومنع القضاء من فرض رقابة عليها لما كان هناك حاجة لإيراد نصين متتاليين في موضوع واحد، ولكن هذه التفرقة تقطع في أن هناك طائفة معينة من القوانين والأوامر أراد الدستور تحصينها ومنع القضاء من فرض رقابة عليها. وانتهت المحكمة من كل ما تقدم إلى رفض الدفع بعدم جواز سماع الدعوى. ثم استعرضت الموضوع وانتهت إلى إصدار حكمها فيه بإلغاء القرار المطعون فيه. وقد طعن رئيس هيئة المفوضين في الحكم مؤسساً طعنه على أن نص المادة الثالثة من القانون رقم 270 لسنة 1956 وإن جاء مضيقاً لاختصاص القضاء مانعاً إياه من نظر المنازعات التي يكون الغرض منها الطعن في أي إعلان أو تصرف أو أمر أو تدبير أو قرار وبوجه عام أي عمل أمرت به أو تولته السلطة القائمة على إجراء الأحكام العرفية مانعاً إياه من نظر هذه المنازعات إلغاءً أو تعويضاً، إلا أنه لا وجه للنعي بعدم الدستورية بدعوى مصادرته لحق التقاضي أو إخلاله بمبدأ المساواة أمام القانون. ذلك أنه تجب التفرقة بين المصادرة المطلقة لحق التقاضي عموماً وبين تحديد دائرة اختصاص القضاء، وإذا كان لا يجوز من الناحية الدستورية حرمان الناس كافة من الالتجاء إلى القضاء للانتصاف؛ لأن في ذلك مصادرة لحق التقاضي وهو حق كفل الدستور أصله؛ إذ تكون مثل هذه المصادرة المطلقة بمثابة تعطيل وظيفة السلطة القضائية، وهي سلطة أنشأها الدستور لتمارس وظيفتها في أداء العدالة مستقلة عن السلطات الأخرى - لئن كان ذلك كذلك، إلا أنه لا يجوز الخلط بين هذا الأمر وبين تحديد دائرة اختصاص القضاء بالتوسيع أو التضييق لأن النصوص الدستورية تقضي بأن القانون هو الذي يرتب جهات القضاء ويعين اختصاصها، وبهذا قضت المادة 125 من دستور سنة 1923 والمادة 176 من دستور جمهورية مصر. وينبني على ذلك أن كل ما يخرجه القانون من ولاية القضاء يصبح معزولاً عن نظره، وهذا أصل من الأصول المسلمة، وقديماً قالوا إن القضاء يتخصص بالزمان والمكان والخصومة؛ ومن ثم فلا شبهة في دستورية نص المادة الثالثة من القانون رقم 270 لسنة 1956، ما دام القانون هو الأداة التي تملك بحكم الدستور ترتيب جهات القضاء وتعين اختصاصاتها، فله أن يضيقها أو أن يوسعها بالشروط والأوضاع التي يقررها. وأنه لا وجه كذلك للنعي على تلك المادة بأنها تنطوي على إخلال بمبدأ المساواة أمام القانون والقضاء؛ لأن المقصود بالمساواة في هذا الشأن هو عدم التمييز بين أفراد الطائفة الواحدة إذا تماثلت مراكزهم القانونية، ولم يتضمن القانون المشار إليه أي تمييز من هذا القبيل على من تطبق عليهم أحكامه. وأن الحكم المطعون فيه إذ ذهب غير هذا المذهب الذي أرست قواعده المحكمة الإدارية العليا في حكمها الصادر في الطعن رقم 161 لسنة 3 ق يكون قد وقع مخالفاً للقانون.
ومن حيث إن القانون رقم 270 لسنة 1956 بإلغاء الأحكام العرفية التي كانت فرضت على البلاد من قبل بموجب المرسوم الصادر في 26 من يناير سنة 1952، قد تضمن في مادته الثالثة النص على أنه "لا تسمع أمام أية جهة قضائية أية دعوى أو طلب أو دفع يكون الغرض منه الطعن في أي إعلان أو تصرف أو أمر أو تدبير أو قرار، وبوجه عام أي عمل أمرت به أو تولته السلطة القائمة على إجراء الأحكام العرفية أو مندوبوها أو وزير المالية والاقتصاد أو أحد الحراس العامين أو مندوبيهم عملاً بالسلطة المخولة لهم بمقتضى نظام الأحكام العرفية، سواء أكان هذا الطعن مباشرة عن طريق المطالبة بإبطال شيء مما ذكر أو بسحبه أو بتعديله أم كان الطعن غير مباشر عن طريق المطالبة بتعويض أو بحصول مقاصة أو بإبراء من تكليف أو التزام أو برد مال أو باسترجاعه أو باسترداده أو باستحقاقه أو بأي طريق آخر..."، وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للقانون المذكور تبريراً لهذا النص ما يلي: "ولما كان الصالح العام واستقرار الأوضاع يقضي بحماية ما تم من إجراءات وقعت تنفيذاً للقرارات والأوامر الصادرة في ظل قانون الأحكام العرفية؛ لذلك نصت المادة الثالثة من المشروع على منع جميع الجهات القضائية من سماع أي دعوى أو طلب أو دفع يكون الغرض منه الطعن على أي عمل أمرت به أو تولته السلطة القائمة على الأحكام العرفية أو مندوبوها أو وزير المالية والاقتصاد أو الحراس العامون أو مندوبوهم، سواء كان هذا الطعن مباشراً عن طريق المطالبة بإبطاله على أية صورة أو غير مباشر عن طريق المطالبة بتعويض عما تم أو إزالة أي أثر من آثاره....".
ومن حيث إن القانون لا يكون غير دستوري إلا إذا خالف نصاً دستورياً قائماً أو خرج على روحه ومقتضاه. ومرد ذلك إلى أن الدستور - وهو القانون الأعلى فيما يقرره - لا يجوز أن تهدره أية أداة أدنى، وأن وظيفة القضاء هي تطبيق القانون فيما يعرض له من الأقضية. والمراد بالقانون هنا هو بمفهومه العام، أي كل قاعدة عامة مجردة أياً كان مصدرها، سواء أكان هذا المصدر نصاً دستورياً أم تشريعياً تقرره السلطة التشريعية المختصة بذلك، أم قراراً إدارياً تنظيمياً، وسواء أكان القرار الإداري التنظيمي صدر في شكل قرار جمهوري أو قرار وزاري ممن يملكه، أو كان قد صدر فيما سبق بمرسوم أو بقرار من مجلس الوزراء أو بقرار وزاري - يطبق القضاء كل هذه القواعد التنظيمية العامة المجردة على اختلاف ما بينها في المصدر وعلى تفاوت ما بينها في المرتبة، ولكن بمراعاة أن القانون يشوبه عدم الدستورية إذا خالف نصاً دستورياً قائماً أو خرج على روحه ومقتضاه كما سلف القول، بينما يشوب القرار الإداري العام عيب عدم المشروعية إذا خالف قاعدة تنظيمية صدرت بأداة أعلى مرتبة، فإذا تزاحمت في التطبيق هذه التشريعات أو التنظيمات جميعاً وقام بينها التعارض وجب على القضاء أن يطبق القاعدة الأعلى في المرتبة، فيغلب الدستور على القانون ويغلب القانون على القرار الإداري أياً كانت مرتبته، ويغلب القرار الإداري العام الأعلى مرتبة على ما هو أدنى منه؛ ذلك لأن المناط في الفصل عند التعارض هو أن الأعلى يسود الأدنى.
ومن حيث إن ما ينعاه الحكم المطعون فيه على المادة الثالثة من القانون رقم 270 لسنة 1956 من "أن المنع من سماع الدعوى في أي تصرف أو أمر أو قرار صدر من السلطة القائمة على إجراء الأحكام العرفية، سواء بالطريق المباشر أو غير المباشر، على هذا النحو الشامل، هو إعفاء لهذه السلطة من أية مسئولية تترتب على تصرفاتها حتى تلك المخالفة لقانون الأحكام العرفية ذاته وحرمان الناس حرماناً مطلقاً من اللجوء إلى القضاء، وأن هذا من شأنه الإخلال بحقوق الناس في الحرية والمساواة وفي التكاليف والواجبات. واحترام المشروعية هو حق للمواطنين، وبالتالي يجب على الإدارة أن تعاملهم على مقتضى مبادئ المشروعية؛ ومن ثم فإن إغلاق سبيل الطعن هو بمثابة منح الإدارة حق التحرر من قيود القانون، وإذا كان هذا محتملاً في ظل دستور الجديد سنة 1923 فإنه أصبح لا ينسجم مع نص المادة 35 من الدستور الجديد والتي تقضي بأن (حق الدفاع أصالة أو بالوكالة يكفله القانون)، وفرق بين أن يكفل القانون الحق أو يحرمه، وإذا كان المشرع يرى أن هنالك ضرورات تقتضي سرعة استقرار بعض القرارات الإدارية، فإن سبيل ذلك هو تنظيم طريق معين للطعن وتحقيق الأغراض السابقة. أما إغلاق كل سبيل للطعن القضائي فهو غير دستوري، فضلاً عن أنه لا مصلحة في حماية الأوضاع غير المشروعة" - إن ما ينعاه الحكم المذكور على القانون المشار إليه بعدم دستوريته لتلك الأسباب التي ذكرها لا يستند إلى أي أساس دستوري سليم؛ ذلك أن النص المذكور قد جاء مضيقاً لاختصاص القضاء، مانعاً إياه من نظر المنازعات المشار إليها بهذا النص بالطريق المباشر أو بالطريق غير المباشر، أي سواء بالإلغاء أو بالتعويض وما إليها. وقد جرى قضاء هذه المحكمة في مثل هذه الحالة على أنه لا وجه للنعي بعدم الدستورية بدعوى مصادرة حق التقاضي؛ إذ تجب التفرقة بين المصادرة المطلقة لحق التقاضي عموماً، وبين تحديد دائرة اختصاص القضاء. وإذا كان لا يجوز من الناحية الدستورية حرمان الناس كافة من الالتجاء إلى القضاء؛ لأن في ذلك مصادرة لحق التقاضي وهو حق كفل الدستور أصله، إذ تكون مثل هذه المصادرة بمثابة تعطيل وظيفة السلطة القضائية، وهي سلطة أنشأها الدستور لتمارس وظيفتها في أداء العدالة مستقلة عن السلطات الأخرى - لئن كان ذلك كما تقدم، إلا أنه لا يجوز الخلط بين هذا الأمر وبين تحديد دائرة اختصاص القضاء بالتوسيع والتضييق؛ إذ النصوص الدستورية تقضي بأن القانون هو الذي يرتب جهات القضاء ويعين اختصاصاتها، وبهذا نصت المادة 125 من دستور سنة 1923 والمادة 176 من دستور جمهورية مصر؛ وينبني على ذلك أن كل ما يخرجه القانون من اختصاص القضاء يصبح معزولاً عن نظره. وهذا أصل من الأصول الدستورية المسلمة، وقديماً قالوا إن القضاء يتخصص بالزمان والمكان والخصومة. وعلى هذا الأصل الدستوري صدرت التشريعات الموسعة أو المضيقة لولاية القضاء في جميع العهود وفي شتى المناسبات وفي ظل جميع الدساتير، كما لا وجه كذلك للنعي عليه بأنه ينطوي على إخلال بمبدأ المساواة أمام القانون والقضاء؛ لأن المقصود بالمساواة في هذا الشأن من الناحية الدستورية هو عدم التمييز بين أفراد الطائفة الواحدة إذا تماثلت مراكزهم القانونية، ولم يتضمن القانون المشار إليه أي تمييز من هذا القبيل بين من تنطبق عليهم أحكامه؛ إذ المنع من سماع الدعوى عام بالنسبة إلى الناس كافة، كما لا وجه في هذا الصدد لإقحام بنص المادة 35 من دستور جمهورية مصر التي تقضي بأن حق الدفاع أصالة أو بالوكالة يكفله القانون؛ لأن المقصود من ذلك هو عدم حرمان المتقاضي من حق الدفاع عن نفسه، ومن البداهة أن محل إعمال ذلك حيثما يكون التقاضي بدعوى متاحاً قانوناً. أما إذا امتنع اختصاص القضاء بنظر دعوى، فغني عن القول أنه لا يكون ثمة مجال لإعمال هذا النص فيها؛ ذلك أن لكل من الأصلين الدستوريين: الأصل الذي يسمح للسلطة التشريعية بتحديد دائرة اختصاص القضاء، والأصل الآخر الذي يكفل للمتقاضي في دعوى متاحة هي من اختصاص القضاء حق الدفاع أصالة أو بالوكالة - لكل من هذين الأصلين مجاله الخاص في التطبيق، فلا يجوز الخلط بينهما.
ومن حيث إنه لا ريب كذلك في دستورية هذا الحكم القانوني الذي تضمنه نص المادة الثالثة من القانون سالف الذكر من الناحية الموضوعية، ما دام يصدر به قانون عقب إلغاء نظام الأحكام العرفية، وهنا يجب عدم الخلط بين تقرير مثل هذا الحكم بقانون وبين تقريره بأداة أدنى لا تملك ذلك، كما وقع بالمرسوم بقانون رقم 64 لسنة 1952 الذي صدر خلال قيام الأحكام العرفية وقتذاك، وهو على أية حال قرار إداري وليس قانوناً، فما كان يملك أن يقرر منع سماع الدعوى في أي تصرف أو أمر أو قرار صدر من السلطة القائمة على إجراء الأحكام العرفية؛ لأن ذلك كان إعفاء لهذه السلطة من أية مسئولية ترتبت على تصرفاتها المخالفة لقانون الأحكام العرفية ذاته، وذلك ما كان يملكه سوى قانون، وعلى هذا الأساس جرى قضاء الدوائر المجتمعة لمحكمة القضاء الإداري على عدم دستورية المرسوم بقانون المشار إليه، ولكنها أكدت في قضائها في الوقت ذاته أن الإعفاء من المسئولية أو منع سماع الدعوى بهذا الشأن لا يملك تقريره سوى قانون، وفي الحق فقد كان يصدر مثل هذا القانون في أعقاب إلغاء نظام الأحكام العرفية الذي كان يفرض على البلاد في شتى المناسبات، كالقانون رقم 114 لسنة 1945 والقانون رقم 50 لسنة 1950، وكانت هذه القوانين تبرر ذلك الحكم في مذكراتها الإيضاحية بمثل ما بررته به المذكرة الإيضاحية للقانون رقم 270 لسنة 1956، وهي اعتبارات تتعلق بالمصلحة العامة، وبمراعاة أن نظام الأحكام العرفية هو نظام استثنائي فرض بحكم الضرورة، وأنه عقب إنهائه يكون - على حد التعبير الذي ورد في تقرير لجنة العدل بمجلس الشيوخ في شأن القانون رقم 114 لسنة 1945 - أن "من المصلحة العليا للبلاد إصدار تشريع يسدل به الستار على حالة استثنائية مضت وانتهى عهدها وصار من المصلحة العامة ألا تثار من جديد مشكلاتها التي لا حد لها، مع غض النظر عن بعض المصالح التي قد يكون أصابها ضرر من هذه التصرفات؛ تغليباً للمصلحة العامة على كل اعتبار؛ ولهذا شبه بقوانين التضمينات (Bill of indemnity) التي جرى العمل في البرلمان الإنجليزي على وضعها لتجعل من أعمال كانت غير مشروعة حين صدورها أعمالاً مشروعة، ومن أعمال معاقب عليها أعمالاً يتناولها العقاب. وكل ذلك رعاية للمصلحة العامة".
ومن حيث إنه فضلاً عما تقدم، فإن هذه المحكمة سبق أن قضت بأن المجادلة في دستورية مثل هذا النص أو غيره من القوانين السابقة قد أصبحت غير ذات موضوع بعد أن صدر دستور جمهورية مصر ناصاً في المادة 190 منه على أن "كل ما قررته القوانين والمراسيم والأوامر واللوائح والقرارات من أحكام قبل صدور هذا الدستور يبقى نافذاًً، ومع ذلك يجوز إلغاؤها أو تعديلها وفقاً للقواعد والإجراءات المقررة في الدستور"، وناصاً في المادة 191 منه على أن "جميع القرارات التي صدرت من مجلس قيادة الثورة وجميع القوانين والقرارات التي تتصل بها وصدرت مكملة أو منفذة لها، وكذلك كل ما صدر من الهيئات التي أمر المجلس المذكور بتشكيلها من قرارات أو أحكام وجميع الإجراءات والأعمال والتصرفات التي صدرت من هذه الهيئات أو من أية هيئة أخرى من الهيئات التي أنشئت بقصد حماية الثورة ونظام الحكم، لا يجوز الطعن فيها أو المطالبة بإلغائها أو بالتعويض عنها بأي وجه من الوجوه وأمام أية هيئة كانت"؛ لأن الدستور المذكور أراد أن يضفي حصانة دستورية على حركة التشريع السابقة عليه التي تمت في عهد الثورة - سواء أكانت بالطريق الأصلي أي بمقتضى قوانين، أم بالطريق الفرعي أي بمقتضى قرارات تنظيمية عامة - حصانة تعصمها من السقوط أو من المجادلة في قوة نفاذها لحكمة تتصل بالمصالح العليا للوطن، بمراعاة أن تلك القوانين واللوائح إنما تمت في عهد ثورة تستهدف الإصلاح الشامل بشكل وفي أوضاع وظروف استثنائية، لا تقاس فيها الأمور بمقياس الأوضاع العادية؛ فأضفى عليها تلك الحصانة الدستورية على اعتبار أنها من الأدوات التي استعملتها الثورة في سبيل أوجه الإصلاح الذي قامت من أجله، وللحكمة عينها حصن الدستور كذلك جميع القرارات التي صدرت من مجلس قيادة الثورة وجميع القوانين والقرارات التي تتصل بها وتكون مكملة أو منفذة لها، وذلك بمنع الطعن فيها بأي وجه من الوجوه وأمام أية هيئة كانت، وهذه الحصانة من الشمول والاتساع بحيث يندرج فيها القرارات والتصرفات الفردية التي صدرت بقصد حماية الثورة، بينما تعني المادة السابقة القوانين والقرارات الإدارية العامة التي تقرر قواعد تنظيمية مجردة.
ومن حيث إنه لكل ما تقدم يكون الطعن قد قام على أساس سليم من القانون، ويكون الحكم المطعون فيه قد أخطأ في تأويل القانون وتطبيقه، فيتعين إلغاؤه، والقضاء بعدم جواز سماع الدعوى.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بقبول الطعن شكلاً، وفي موضوعه بإلغاء الحكم المطعون فيه، وبعدم جواز سماع الدعوى، وألزمت المدعيين بالمصروفات.