مجلس الدولة - المكتب الفني - مجموعة المبادئ القانونية التي قررتها المحكمة الإدارية العليا
السنة الثالثة - العدد الثالث (من أول يونيه إلى آخر سبتمبر سنة 1958) - صـ 1729

(176)
جلسة 12 من يوليه سنة 1958

برياسة السيد/ السيد علي السيد رئيس مجلس الدولة وعضوية السادة سيد علي الدمراوي والسيد إبراهيم الديواني وعلي إبراهيم بغدادي والدكتور ضياء الدين صالح المستشارين.

القضية رقم 58 لسنة 4 القضائية

( أ ) قرار إداري - وجوب التفرقة بين تسبيب القرار الإداري كإجراء شكلي قد يتطلبه القانون وبين وجوب قيامه على سبب يبرره - التسبيب لا يكون لازماً إلا حيث يوجبه القانون - السبب يجب أن يكون قائماً وصحيحاً سواء كان التسبيب لازماً أم غير لازم.
(ب) فصل الموظف - احتواء ملف خدمة الموظف على ما يزكيه وخلوه مما يشينه - لا يعتبر قرينة كافية للقول بأن قرار فصله من الخدمة غير قائم على سبب يبرره - ملف الخدمة وإن كان هو المرجع الرئيسي لبيان حالة الموظف إلا أنه ليس المصدر الوحيد - ماهية المصادر الأخرى التي يمكن الرجوع إليها في هذا الخصوص.
(ج) فصل الموظف بغير الطريق التأديبي - لا يشترط لصحته أن يواجه الموظف بما هو منسوب إليه أو أن يحقق دفاعه بشأنه.
1 - تجب التفرقة بين وجوب تسبيب القرار الإداري كإجراء شكلي قد يتطلبه القانون وبين وجوب قيامه على سبب يبرره صدقاً وحقاً كركن من أركان انعقاده فلئن كانت الإدارة غير ملزمة بتسبيب قرارها إلا إذا أوجب القانون ذلك عليها وعندئذٍ يتعين عليها تسبيب قرارها وإلا كان معيباً بعيب شكلي، أما إذا لم يوجب القانون تسبيب القرار فلا يلزمها ذلك كإجراء شكلي لصحته، بل ويحمل القرار على الصحة كما يفترض فيه ابتداء قيامه على سبب صحيح، وذلك كله حتى يثبت العكس - لئن كان كذلك، إلا أن القرار الإداري، سواء أكان لازماً تسبيبه كإجراء شكلي أم لم يكن هذا التسبيب لازماً، يجب أن يقوم على سبب يبرره صدقاً وحقاً، أي في الواقع وفي القانون، وذلك كركن من أركان انعقاده؛ باعتبار القرار تصرفاً قانونياً، ولا يقوم أي تصرف قانوني بغير سببه، والسبب في القرار الإداري هو حالة واقعية أو قانونية تحمل الإدارة على التدخل بقصد إحداث أثر قانوني هو محل القرار، ابتغاء وجه الصالح العام الذي هو غاية القرار. والقرار المطعون فيه هو قرار فصل بغير الطريق التأديبي صدر بالاستناد إلى الفقرة 6 من المادة 107 من القانون رقم 210 لسنة 1951 الخاص بنظام موظفي الدولة، وهو قرار لا تلزم الإدارة بتسبيبه كإجراء شكلي، إلا أنه يجب أن يقوم على سبب يبرره، وإن كان يفترض فيه ابتداء قيامه على سبب صحيح حتى يثبت العكس.
2 - إن القرينة التي استنبطها الحكم المطعون فيه، فمالت به إلى الاقتناع بأن القرار الصادر بفصل المدعي من الخدمة لم يقم على سبب يبرره، وهي خلو ملف خدمته مما يصح أن يكون سبباً لفصله مع احتوائه في الوقت ذاته على ما يزكيه وعدم إفصاح الإدارة وقتذاك عن السبب الحقيقي لفصله - هذه القرينة غير كافية؛ ذلك أن ملف الخدمة وإن كان هو المرجع الرئيسي فيما يتعلق بمراحل حياة الموظف في الوظيفة، وأن ما يودع في هذا الملف من تقارير في حقه - إن كان ممن يخضعون لنظام التقارير - لها بغير شك قيمة في تقدير كفايته وسلوكه، إلا أنه غني عن القول أن ليس معنى هذا أنه هو المصدر الوحيد الذي يجب الاقتصار عليه وحده في كل ما يتعلق بالموظف من بيانات ومعلومات وقد يكون لها أثرها في هذا الشأن، وبوجه خاص إذا لم يكن الموظف ممن يخضعون لنظام التقارير أو كان قد تعدى المرحلة التي تخضع لهذا النظام، فقد تغيب تلك البيانات والمعلومات عن واضعي التقارير، وقد لا يحتويها الملف، ولكنها لا تغيب عن ذوي الشأن ممن بيدهم زمام الأمر، يستقونها سواء بأنفسهم بمصادرهم الخاصة أو بالأجهزة الرسمية المخصصة لاستجماع هذه البيانات والمعلومات وتحريها واستقرائها.
3 - لا يلزم في مجال الفصل بغير الطريق التأديبي أن يواجه الموظف بما ينسب إليه وأن يحقق معه أو يسمع دفاعه فيه، وإنما يكفي أن يقوم به السبب المبرر للفصل، وأن يطمئن أولو الأمر إلى قيامه، وألا يقوم دليل مقنع على عكسه بعد ذلك إذا كشفت الإدارة عن هذا السبب.


إجراءات الطعن

في 19 من ديسمبر سنة 1957 أودع السيد رئيس هيئة مفوضي الدولة سكرتارية المحكمة عريضة طعن في الحكم الصادر من محكمة القضاء الإداري (هيئة ثانية) بجلسة 20 من نوفمبر سنة 1957 في الدعوى 1056 لسنة 10 ق المرفوعة من الدكتور عبد الله علي ضد مجلس الوزراء ووزارة التربية والتعليم ومدير جامعة القاهرة، والذي قضى "بإلغاء قرار مجلس الوزراء الصادر في 28 من سبتمبر سنة 1955 بإحالة المدعي إلى المعاش مع ما يترتب على ذلك من آثار، وألزمت الحكومة بالمصروفات وبمبلغ خمسمائة قرش مقابل الأتعاب، ورفضت ما عدا ذلك من الطلبات". وطلب السيد رئيس هيئة المفوضين - للأسباب التي استند إليها في عريضة طعنه - "الحكم بقبول هذا الطعن شكلاً، وفي موضوعه بإلغاء الحكم المطعون فيه، وبرفض دعوى المدعي بشقيها وإلزامه بمصروفاتها". وقد أعلن الطعن للحكومة في 22 و28 من ديسمبر سنة 1957، وللخصم في 2 من يناير سنة 1958، وعين لنظره جلسة أول مارس سنة 1958، وفيها سمعت المحكمة ما رأت سماعة من إيضاحات، وأرجئ النطق بالحكم لجلسة اليوم.


المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق وسماع الإيضاحات وبعد المداولة.
من حيث إن الطعن قد استوفى أوضاعه الشكلية.
ومن حيث إن عناصر هذه المنازعة، حسبما يبين من الأوراق، تتحصل في أن المدعي أقام الدعوى رقم 1056 لسنة 10 ق أمام محكمة القضاء الإداري بصحيفة أودعت سكرتاريتها في 6 من مارس سنة 1956 ضد مجلس الوزراء ووزارة التربية والتعليم ومدير جامعة القاهرة، طالباً الحكم أولاً، بإلغاء قرار مجلس الوزراء الصادر في 28 من سبتمبر سنة 1955 بإحالة المدعي إلى المعاش وإلغاء جميع الآثار المترتبة عليه. وثانياً، بإلزام المدعى عليهم بصفاتهم وبطريق التضامن بأن يدفعوا للمدعي مبلغ عشرة آلاف جنيه على سبيل التعويض وجميع المصاريف ومقابل الأتعاب. وقال المدعي في بيان ذلك إنه تلقى في 4 من أكتوبر سنة 1955 من عميد كلية الطب بجامعة القاهرة الكتاب الآتي نصه "أبلغتنا الجامعة بكتابها السري رقم 48 في 2 من أكتوبر سنة 1955 بأن مجلس الوزراء وافق بجلسته المنعقدة في 28 من سبتمبر سنة 1955 على إحالتكم إلى المعاش مع ضم سنتين إلى مدة خدمتكم بشرط عدم تجاوز سن الستين وصرف الفرق بين المرتب والمعاش مشاهرة والمرجو تسليم ما بعهدتكم من متعلقات ليتسنى إخلاء طرفكم"، وكان هذا التبليغ مفاجأة مذهلة للمدعي وللوسط الطبي والعلمي في الكلية وفي الجامعة ولزملاء المدعي بمصر وفي الخارج؛ لما هو مشهود له به من تخصص في الجراحة والعلاج بالراديوم؛ ولما هو مشهود له به من حرص شديد ومواظبة مثالية على إلقاء الدروس والمحاضرات على طلاب الكلية، والقيام بأعباء الامتحانات في الجامعات الثلاث، والدقة في الإشراف والعمل الفني والإداري بقسم الجراحة المعهود برياسته إليه في سنة 1947 خلفاً للأستاذ المتفرغ المستر هرسنت، وهو قسم من أكبر أقسام الجراحة بالمستشفى. ويستطرد المدعي قائلاً إن هذا القرار صدر يغير ما سبب صحيح مشروع يؤيده، ومما يقطع في تجرده عن أي سند يبرره وفي افتقاره إلى أي أساس قانوني يقوم عليه أنه صدر بغتة وعلى غرة من صاحب الشأن ودون اعتداد بما هو ثابت في ملف الخدمة في سجلات الكلية؛ فقد حصل المدعي في سنة 1925 على دبلوم الطب والجراحة من مدرسة الطب المصرية بتفوق إذ كان ترتيبه الثاني، فأوفد لامتيازه في بعثة دراسية إلى جامعة لندن للحصول على شهادة الزمالة لكلية الجراحين الملكية بإنجلترا (F. R. C. S)؛ وقد جاز المدعي مرحلة الدراسة هذه وحصل على تلك الإجازة العالية، ثم عين المدعي بمجرد انتهاء البعثة - وكان أول من عين من دفعته - مدرساً للجراحة بكلية طب القصر العيني. ونظراً لحاجة مستشفى القصر العيني وكلية الطب به إلى متخصص للعلاج بالراديوم، فقد أوفد في بعثة للتخصص في هذا الفرع من العلاج، وهو فرع دقيق يتطلب دراسة خاصة وشاقة، ومارس المدعي في هذه البعثة دراسته في معهد كوري بباريس، وبمعهد الراديوم باستكهولم بالسويد، وبمعهد الراديوم البريطاني بلندن، كما تدل على ذلك الشهادات المرفقة بملفه ومنها صور تحت يد المدعي. ثم تدرج في سلك هيئة التدريس بكلية طب القصر العيني وفي أعمال المستشفى تدرجاً يقطع بتمام كفايته علماً وعملاً، فلم تفته أية ترقية إلى أن رقي أخيراً في 16 من إبريل سنة 1953 إلى وظيفة أستاذ من الفئة (ب) - أ - في الدرجة الأولى المالية، وكان ذلك بعد التحقق من أن الإنتاج العلمي للمرشح للترقية هو من درجة قيمة مبتكرة أهلته إلى الترقية إلى وظيفة أستاذ ذي كرسي. وكانت مواظبة المدعي وحرصه على واجبات التدريس بالكلية والعلاج بالمستشفى محل رضاء عام من المرضى ومن الطلاب ومن هيئة التمريض ومن الأساتذة الزائرين. كما كان يندب باستمرار لامتحان طلاب دبلوم الجراحة والماجستير، وهي دراسات عليا يراعى في اختيار الممتحنين لها درجة الامتياز والكفاية العلمية. هذا إلى جانب ما للمدعي من بحوث علمية فريدة في موضوع العلاج بالراديوم وهو موضوع لا يزال البحث العلمي فيه محدوداً فلهذا كله لا يستطيع المدعي أن يعلل قرار فصله إلا بأنه كان نتيجة لبيانات غير صحيحة لم يمحصها أي تحقيق ولا تؤيدها الأوراق المتعلقة بعمل المدعي سواء في الكلية أو المستشفى أو في ملف خدمته. ولهذه الأسباب يقول المدعي إن القرار الصادر من مجلس الوزراء بإحالته إلى المعاش في 28 من سبتمبر سنة 1955 قد جاء مشوباً بعيب إساءة استعمال السلطة مما يستتبع الحكم بإلغائه. وقد سبق للمدعي أن تقدم إلى الجهات المختصة في 16 من نوفمبر سنة 1955 بالتظلم من القرار المطعون فيه، وقد فات الميعاد القانوني دون أن تجيب تلك السلطات على تظلمه، مما يعتبر بمثابة الرفض، وأصبح من حقه رفع دعوى الإلغاء. وقد أصابه من جراء إحالته إلى المعاش تعسفاً وبلا مبرر وقبل بلوغه سن التقاعد بثلاثة سنوات وأربعة أشهر ضرر جسيم؛ إذ ترتب عليه الإساءة إلى سمعته في الأوساط الجامعية والطبية وفي ميدان نشاطه العملي كطبيب عامل له عيادة ومستشفى، مما كان له أثر مادي وأدبي لا يقل تعويضه عن عشرة آلاف جنيه. ولم تبد الحكومة دفاعاً في الدعوى مكتفية بإيداع ملف خدمة المدعي وصورة من مذكرة وزارة التربية والتعليم المرفوعة بشأنه إلى مجلس الوزراء والقرار المطعون فيه. وبجلسة 20 من نوفمبر سنة 1957 حكمت المحكمة "بإلغاء قرار مجلس الوزراء الصادر في 28 من سبتمبر سنة 1955 بإحالة المدعي إلى المعاش، مع ما يترتب على ذلك من آثار، وألزمت الحكومة بالمصروفات ومبلغ خمسمائة قرش مقابل أتعاب المحاماة، ورفضت ما عدا ذلك من الطلبات". وأقامت المحكمة قضاءها على أنه مما لا ريب فيه أن مجلس الوزراء هو الهيئة الإدارية العليا التي تهيمن على شئون الموظفين وتقضي في كل ما يتعلق بهم من أمور وفق ما يقتضيه الصالح العام، وهذا الصالح العام يتطلب إطلاق يد الحكومة في تنظيم المرافق العامة وإدارتها على الوجه الأكمل باختيار من ترى فيهم الحكومة القدرة على تسيير دفة هذه المرافق على الوجه الذي يحقق الغاية المقصودة منها. وليس يحد من سلطة الحكومة في عزل الموظفين العامين إلا قيد حسن استعمالها وفقاً لمقتضيات الصالح العام، أي خلوه من شائبة إساءة استعمال السلطة وعدم صدوره عن بواعث شخصية؛ وذلك لأن سلطة مجلس الوزراء في فصل الموظفين ليست سلطة تحكمية لا حد لها ولا ضابط، وإنما هي سلطة تقديرية تجد حدها الطبعي في العلة التي أملتها وهي الصالح العام، فإذا انحرفت عن استهدافه جاء التصرف مشوباً بعيب إساءة استعمال السلطة وكان غير مشروع. ومن جهة أخرى فإنه ولئن كان من المسلم به لا يلزم لصحة القرار الإداري أن يشتمل على أسبابه، إذ يفترض في هذه الحالة أنه قام على أسباب صحيحة ومستهدفاً مصلحة عامة، إلا أن هذا لا يعفي الحكومة من ضرورة قيام قرارها على دواع من الواقع وابتنائه على أسباب صحيحة تحمله بحيث إذا انعدم السبب المعقول بات القرار معيباً وحق إلغاؤه، والمرجع في التعرف على سبب القرار هو إلى أوراق الدعوى التي يجب أن تحمل بذاتها دليلاً على صحة القرار أو بطلانه. ثم قالت المحكمة إن القرار الصادر بإحالة المدعي إلى المعاش قد جاء خالياً من الأسباب، وأنه وإن ورد في المذكرة المرفوعة من وزير التربية والتعليم لمجلس الوزراء أن الإحالة إلى المعاش هي للصالح العام، إلا أن الصالح العام هو الغاية التي يستهدفها كل قرار إداري وليس هو السبب الذي هو ركن مستقل يجب أن يقوم عليه كل قرار إداري. ولئن كان المفروض في القرارات الإدارية غير المسببة أنها صدرت صحيحة مستهدفة المصلحة العامة إلا أن هذا لا يعفي الإدارة من ضرورة قيام قرارها على دواع من الواقع وابتنائه على أسباب صحيحة تحمله، بحيث إذا انعدم السبب المعقول أو لاحت من التصرف إساءة استعمال السلطة بات القرار معيباً، ومرد ذلك جميعه إلى أوراق الدعوى، التي يجب أن تحمل بذاتها الدليل على صحة القرار أو بطلانه، وجاء في أسباب الحكم المطعون فيه أن الحكومة لم تبد دفاعاً في الدعوى مكتفية بإيداع ملف خدمة المدعي وصورة من مذكرة وزارة التربية والتعليم المرفوعة بشأنه إلى مجلس الوزراء والقرار المطعون فيه، وأنه بالرجوع إلى ملف خدمة المدعي والأوراق والشهادات المقدمة بحافظة مستنداته يبين أن المدعي حصل على دبلوم الطب المصرية سنة 1925، واشتغل مساعداً إكلينيكياً بقسم الجراحة بالقصر العيني، ثم أوفد في بعثة إلى إنجلترا، وحصل في سنة 1930 على شهادة زميل بكلية الجراحين الملكية من جامعة لندن، واشتغل بقسم الجراحة بعد عودته من البعثة، كما أوفد لدراسة العلاج بالراديوم وحصل على شهادات من المعاهد المختلفة بلندن وباريس واستكهولم، ويدل تاريخه في مستشفى وكلية طب القصر العيني على أنه تدرج بكفاءته في مختلف الوظائف حتى وصل إلى درجة أستاذ من الفئة ( أ ) في سنة 1953، وقد كتب خلال ذلك أبحاثاً عدة تتصل بالأمراض التي تعالج بالكهرباء والراديوم، كما تدل الشهادات المودعة بحافظة المدعي على أنه كان جراحاً ناجحاً في المستشفى، وأنه كان شديد العناية بالقسم الذي يرأسه. وملف خدمة المدعي هو الوعاء الصادق لحالته، والمرجع في تبيان صلاحيته، فقد خلا من أي شائبة، بل قد دل مع الشهادات المقدمة من المدعي على كفاءة مقرونة بالإنتاج والدرس والبحث، مما ينعدم معه كل سبب معقول في تبرير فصله، كما لا تتحقق أية مصلحة عامة حقيقية من وراء هذا الفصل؛ وبذلك يكون القرار المطعون فيه قد جاء مخالفاً للقانون مشوباً بإساءة استعمال السلطة، مما يتعين معه إلغاؤه، وإلغاء القرار فيه كل تعويض عن الأضرار المادية والأدبية التي نتجت عنه، مما لا محل معه للقضاء بتعويض آخر.
ومن حيث إن الطعن يقوم على أن الحكم المطعون فيه قد أخطأ في تأويل القانون وتطبيقه، فحق القضاء بإلغائه وبرفض الدعوى بشقيها مع إلزام المدعي بالمصروفات؛ ذلك أن علاقة الموظف بالحكومة ليست علاقة تعاقدية حتى تلتزم بالإبقاء عليه في وظيفته ما بقي العقد، ولكن هذه العلاقة هي علاقة تنظيمية تحكمها القوانين واللوائح، فمركز الموظف في ظلها هو مركز قانوني عام يجوز للحكومة تغييره في أي وقت، فالوظيفة العامة هي بنص المادة 28 من الدستور تكليف للقائم بها؛ وهذا التكليف يقتضي من الموظف أن يكون قادراً على تحمله ضماناً لحسن سير الإدارة الحكومية، فبقاؤه في الوظيفة رهين بهذا المناط، وهو استمرار صلاحيته للنهوض بأعبائها، وهو أمر يخضع أساساً لتقدير الحكومة القوامة على تسيير المرافق العامة، فتفصل من تراه أصبح غير صالح لذلك دون احتجاج منه بأن له أصل حق في البقاء في الوظيفة، والمفروض في الحكومة وهي تمارس هذا الحق الأصيل أنها تمارسه معلولاً بعلته التي أملته وهي تحقيق المصلحة العامة دون تحيف أو إجحاف بشغل الوظيفة، إذ لا خصومة بينها وبينه تحملها على تعمد تنحيه وإقصائه. وقرارات الفصل غير المسببة تعتبر أنها صدرت من الحكومة صحيحة متفقة مع أهداف القانون وغاياته، ويقع على عاتق من يطلب إلغاءها أن يقيم الدليل قاطعاً على أنها صدرت بدافع من الغرض والهوى، وإثبات هذا الدافع ليس يكفي فيه أن يقال إن المدعي طبيب كبير يحمل مؤهلات عدة، وأنه صاحب همة ونشاط، فهذه الأسباب بمجردها ليس من شأنها أن تصم القرار بعيب إساءة استعمال السلطة، أي بأن الحكومة توخت في إصداره مصلحة خاصة لا مصلحة عامة.
ومن حيث إن المدعي عقب على طعن السيد رئيس هيئة مفوضي الدولة بمذكرتين قال فيهما إن القرار المطعون فيه وقع باطلاً حقيقاً بالإلغاء لافتقاره إلى ركن السبب، وأنه متى كان ملف خدمته شاهداً بكفايته وإنتاجه في البحث وخالياً من الشوائب كان هذا دليلاً على أن قرار فصله ليس له سبب صحيح يقوم عليه، وانبنى على انعدام ركن السبب صدور القرار غير مستهدف مصلحة عامة وانحرافه عن الغاية التي تقررت من أجلها سلطة الفصل واتسامه بعيب عدم المشروعية، ويقع عبء إثبات العكس في هذه الحالة على عاتق جهة الإدارة، التي لا يسوغ لها أن تتحدى بأن المصلحة العامة تستوجب كتمان سبب الفصل، وإلا كانت عاجزة عن إثبات ما انتقل إليها عبء إثباته قانوناً، وظل القرار مدموغاً بالعيب المؤدى إلى بطلانه. ولا حجة في الاعتصام بالسرية؛ إذ يتعين عندئذٍ إعمال الإجراءات الخاصة بالسرية في نظام المحاكمات الإدارية، ولا سرية على القضاء مهما كانت دواعي هذه السرية، والقول بغير ذلك يقضي إلى تعطيل رقابة القضاء على قرارات الإدارة التي من هذا القبيل، وينطوي على خروج على أحكام الدستور الذي جعل القضاء من دعامات الحكم، وخلص المدعي من هذا إلى طلب رفض الطعن. وقد قدمت الحكومة مذكرة بملاحظاتها رددت فيها أسانيد الطعن، وانتهت فيها إلى طلب "القضاء بإلغاء الحكم المطعون فيه، ورفض الدعوى، مع إلزام المطعون ضده بالمصروفات ومقابل أتعاب المحاماة". وقد قررت المحكمة بجلسة أول مارس سنة 1958 الاستفسار من جهة الإدارة عما إذا كانت لديها أسباب معينة تبرر فصل المدعي وتنفي في هذا الشأن القرينة المستفادة من خلو ملف خدمته المدعي مما يبرر هذا الفصل. فأودعت الجامعة كتاب السيد وزير التربية والتعليم إلى السيد مدير الجامعة الذي جاء به "بالإشارة إلى كتاب سيادتكم المؤرخ 23 من مارس سنة 1958 في شأن ما قررته المحكمة الإدارية العليا في أول مارس سنة 1958 في الدعويين المرفوعتين من الدكتور عبد الله علي وآخر الأستاذين السابقين بكلية الطب، نفيدكم بأنه لا شك في أن مجلس الوزراء قد استخدم سلطته في إحالة المدعيين إلى المعاش متوخياً المصلحة العامة بغير أن يصرح بالأسباب التي دعته إلى ذلك. وكان هذا بناءً على مبررات قوية تتصل بسمعة الكلية والتدريس بها والعلاج في المستشفيات الملحقة بها، وهي أسباب روعي كتمانها مراعاة للمصلحة العامة وصيانة لسمعة الكلية والمستشفيات". ولما أصر المدعي في مذكرته بعد ذلك على إبداء هذه الأسباب قدمت الجامعة في 7 من يونيه سنة 1958 بياناً وارداً إليها من الوزير بالأسباب المعنية التي أدت إلى إحالة المدعي إلى المعاش، وهي التي رؤي تكتمها أولا صيانة لسمعة الكلية والمستشفيات، وقد ورد في هذا البيان فيما يتعلق بالمدعي "استغلاله الراديوم ملك المستشفيات الجامعية في عيادته الخاصة، ويعزى بعض ثرائه إلى ذلك. وكذلك اتجاهه إلى الأساليب غير النزيهة لإدخال مرضاه الذين يدفعون له أجوراً في مستشفى القصر العيني، ومعالجتهم بالراديوم المخصص للعلاج المجاني". وبجلسة 21 من يونيه سنة 1958 قررت المحكمة تأجيل النطق بالحكم لجلسة اليوم، ورخصت في الاطلاع على هذا البيان وفي تقديم مذكرات ومستندات خلال أسبوعين. ولم يعقب المدعي على ذلك.
ومن حيث إنه يجب التنبيه بادئ ذي بدء إلى الفرق بين وجوب تسبيب القرار الإداري كإجراء شكلي قد يتطلبه القانون، وبين وجوب قيامه على سبب يبرره صدقاً وحقاً. فلئن كانت الإدارة غير ملزمة بتسبيب قرارها إلا إذا أوجب القانون ذلك عليها، وعندئذٍ يتعين عليها تسبيب قرارها وإلا كان معيباً بعيب شكلي، أما إذا لم يوجب القانون تسبيب القرار فلا يلزمها ذلك كإجراء شكلي لصحته، بل ويحمل القرار على الصحة، كما يفترض فيه ابتداء قيامه على سبب صحيح، وذلك كله حتى يثبت العكس - لئن كان ذلك كذلك، إلا أن القرار الإداري، سواء أكان لازماً تسبيبه كإجراء شكلي أم لم يكن هذا التسبيب لازماً، يجب أن يقوم على سبب يبرره صدقاً وحقاً أي في الواقع وفي القانون، وذلك كركن من أركان انعقاده؛ باعتبار القرار تصرفاً قانونياً، ولا يقوم أي تصرف قانوني بغير سببه، والسبب في القرار الإداري هو حالة واقعية أو قانونية تحمل الإدارة على التدخل بقصد إحداث أثر قانوني هو محل القرار ابتغاء وجه الصالح العام الذي هو غاية القرار.
ومن حيث إن القرار المطعون فيه هو قرار فصل بغير الطريق التأديبي صدر بالاستناد إلى الفقرة 6 من المادة 107 من القانون رقم 210 لسنة 1951 الخاص بنظام موظفي الدولة، وهو قرار لا تلزم الإدارة بتسبيبه كإجراء شكلي، ومع ذلك يجب أن يقوم على سبب يبرره، وإن كان يفترض فيه ابتداء قيامه على سبب صحيح حتى يثبت العكس.
ومن حيث إن المدعي حاول نفي قرينة الصحة التي يحمل عليها القرار ابتداءً بالاستناد إلى خلو ملف خدمته مما يشينه ويعيبه، بل على العكس من ذلك يحمل بين طياته ما يزكيه وما يشيد بكفايته.
ومن حيث إن الحكم المطعون فيه مع تسليمه بأن مجلس الوزراء هو الهيئة الإدارية العليا التي تهيمن على شئون الموظفين وتقضي في كل ما يتعلق بهم من أمور وفق ما يقتضيه الصالح العام، وهذا الصالح العام يتطلب إطلاق يد الحكومة في تنظيم المرافق العامة وإدارتها على الوجه الأكمل، باختيار من ترى فيهم الحكومة القدرة على تسيير دفة هذه المرافق على الوجه الذي يحقق الغاية المقصودة منها، وإبعاد من ترى أنه أصبح غير صالح للقيام بهذه المهمة، وليس يحد مكن سلطة الحكومة في عزل الموظفين العامين إلا قيد حسن استعمالها وفقاً لمقتضيات الصالح العام، أي خلوه من شائبة إساءة استعمال السلطة وعدم صدوره عن بواعث شخصية، وأنه ولئن كان من المسلم به أنه لا يلزم لصحة القرار الإداري أن يشتمل على أسبابه؛ إذ يفترض في هذه الحالة أنه قام على أسباب صحيحة ومستهدفاً مصلحة عامة، إلا أن هذا لا يعفي الحكومة من ضرورة قيام قرارها على دواع من الواقع وابتنائه على أسباب صحيحة تحمله، بحيث إذا انعدم السبب أو لاح من التصرف إساءة استعمال للسلطة بات القرار معيباً - مع تسليم الحكم المطعون فيه بكل هذه المبادئ، إلا أنه أخذ بدفاع المدعي، فاقتصر على تقصي مراحل حياته الوظيفية من واقع ملف خدمته وما تدرج فيه من مناصب وما يحمله من درجات علمية، واستخلص من ذلك أنه طبيب وأستاذ ذو كفاية عالية، وأن المصلحة العامة هي في إبقائه في وظيفته وليست في تنحيته عنها، وأن القرار المطعون فيه يكون - والحالة هذه - غير قائم على سبب مشروع ومشوباً بإساءة استعمال السلطة.
ومن حيث إنه يبين مما تقدم أن خلو ملف خدمة المدعي مما يصح أن يكون سبباً لفصله ومع احتوائه في الوقت ذاته على ما يزكيه وعدم إفصاح الإدارة وقتذاك عن السبب الحقيقي لفصله، هو القرينة التي استنبطها الحكم المطعون فيه، فمالت به إلى الاقتناع بأن القرار لم يقم على سبب يبرره، فجارى بذلك دفاع المدعي.
ومن حيث إن ملف الخدمة، وإن كان هو المرجع الرئيسي فيما يتعلق بمراحل حياة الموظف في الوظيفة، وأن ما يودع في هذا الملف من تقارير في حقه إن كان ممن يخضعون لنظام التقارير لها بغير شك قيمة في تقدير كفايته وسلوكه، إلا أنه غني عن القول أن ليس معنى هذا أنه هو المصدر الوحيد الذي يجب الاقتصار عليه وحده في كل ما يتعلق بالموظف من بيانات ومعلومات قد يكون لها أثرها في هذا الشأن، وبوجه خاص إذا لم يكن الموظف ممن يخضعون لنظام التقارير، أو كان قد تعدى المرحلة التي تخضع لهذا النظام، فقد تغيب تلك البيانات والمعلومات عن واضعي التقارير، وقد لا يحتويها الملف، ولكنها لا تغيب عن ذوي الشأن ممن بيدهم زمام الأمر، يستقونها سواء بأنفسهم بمصادرهم الخاصة أو بالأجهزة الرسمية المخصصة لاستجماع هذه البيانات والمعلومات وتحريها واستقرائها. وغني عن القول كذلك أنه لا يلزم في هذا المجال - وهو مجال الفصل بالطريق غير التأديبي - أن يواجه الموظف بما ينسب إليه وأن يحقق معه أو يسمع دفاعه فيه، وإنما يكفي أن يقوم به السبب المبرر للفصل، وأن يطمئن أولو الأمر إلى قيامه، وألا يقوم دليل مقنع على عكسه بعد ذلك إذا كشفت الإدارة عن هذا السبب.
ومن حيث إن هذه المحكمة - استجلاء للحقيقة في هذا الشأن - قررت بجلسة أول مارس سنة 1958 الاستفسار من الحكومة عن الأسباب المعينة التي دعت إلى فصل المدعي، والتي تنتفي معها القرينة المستفادة من خلو ملف خدمته مما يصح أن يكون سبباً لفصله، فقدمت الحكومة أخيراً بياناً بهذه الأسباب التي رأت تكتمها أولاً صيانة لسمعة الكلية والمستشفيات ولسمعة المدعي نفسه، وقد ورد في هذا البيان فيما يتعلق بالمدعي "استغلاله الراديوم ملك المستشفيات الجامعية في عيادته الخاصة، ويعزى بعض ثرائه إلى ذلك، وكذلك اتجاهه إلى الأساليب غير النزيهة لإدخال مرضاه الذين يدفعون له أجوراً في مستشفى القصر العيني ومعالجتهم بالراديوم المخصص للعلاج المجاني". وليس من شك في أن هذه المعايب التي لا يحتويها الملف كما سلف القول، وإنما تتجمع لدى أولي الأمر، يستقونها من مصادرهم الخاصة أو من الأجهزة الرسمية المخصصة لهذا الغرض - إن هذه المعايب متى ثبتت لديهم واطمأنوا إلى قيامها بالموظف ولم يدحضها هذا الأخير بالدليل المقنع، صلحت سبباً يقوم عليه قرار فصله.
ومن حيث إنه لكل ما تقدم يكون الحكم المطعون فيه قد أخطأ في تأويل القانون وتطبيقه، فيتعين إلغاؤه، والقضاء برفض الدعوى.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة بقبول الطعن شكلاً، وفي موضوعه بإلغاء الحكم المطعون، وبرفض الدعوى، وألزمت المدعي بالمصروفات.