مجلس الدولة - المكتب الفني - مجموعة المبادئ القانونية التي تضمنتها فتاوى قسم الرأي
السنة الثامنة والنصف الأول من السنة التاسعة (من أول أكتوبر سنة 1953 إلى آخر مارس سنة 1955) - صـ 24

(فتوى رقم 242 في 23 من يونيه سنة 1954)
(18)

ديوان المحاسبة - اختصاصه فيما يتعلق بقرارات التعيين في الوظائف العامة والترقية ومنح العلاوات - قاصر على مطابقتها للميزانية والأوضاع الحسابية والمالية - لا سلطان له في مراجعة هذه القرارات من الناحية القانونية.
يتعين - لتحديد اختصاص ديوان المحاسبة في مراجعة القرارات الإدارية الخاصة بالموظفين، وللوقوف على ما إذا كانت مهمته تقتصر على مراجعة عمليات الصرف من الناحية الحسابية دون ما تعرض لبحث مشروعية القرارات التي ينبني عليها الصرف، أو أن هذه المهمة تمتد فتشمل الناحية القانونية لهذه القرارات - الرجوع إلى الأعمال التحضيرية التي سبقت إعداد القانون رقم 52 لسنة 1942 بإنشاء ديوان المحاسبة لتقصي بواعث هذا الإنشاء وتفهم أغراضه ومراميه.
ومن حيث إن مشروع القانون الذي تقدمت به الحكومة إلى البرلمان في سنة 1942 بإنشاء ديوان المحاسبة إنما وضع على أساس المشروع الذي كان قد عرض على البرلمان في سنة 1930 فأقره مجلس النواب ثم سحب من مجلس الشيوخ ولم يقدر له الصدور. وقد استهلت المذكرة التي رفع بها هذا المشروع إلى البرلمان ببيان البواعث التي دفعت الحكومة إلى التقدم به، فذكرت أن قانون المصلحة المالية يتضمن بعض أحكام بتنظيم مراجعة الحسابات الشهرية بعد الصرف وضبط مستنداتها، غير أن وزارة المالية لاحظت أن هذه المراجعة تقوم بها هيئات غير مستقلة تابعة للوزارات المختلفة فأنشأت مراقبة تابعة لها لتوحيد هذه الأقسام المختلفة وضبط العمل فيها وزودتها بالسلطة اللازمة. فلما صدر دستور سنة 1923 أبديت رغبات برلمانية بضرورة إنشاء إدارة مستقلة تقوم بالتثبت من تحصيل إيرادات الدولة ومن إنفاقها في الوجوه التي عينها البرلمان. وتنفيذاً لهذه الرغبات وضعت وزارة المالية مشروع القانون سالف الذكر بتنظيم "مراقبة حسابات الدولة" مسترشدة بالأنظمة المرعية في أرقى البلاد الدستورية. وتقضي المادة الأولى من هذا المشروع بأن "يعهد بمراجعة إيرادات الدولة ومصروفاتها إلى إدارة مستقلة تسمى ديوان المراقبة". كما تقضي المادة السادسة بأن يختص الديوان فيما يتعلق بالمصروفات بالتثبت من أنها صرفت في الأغراض التي فتحت الاعتمادات من أجلها وأن الصرف تم طبقاً للقوانين واللوائح النافذة وبتحقيق صحة المستندات المالية تأييداً للصرف والاستيثاق من مطابقتها للأرقام المدرجة بالحسابات". (وهو نص يطابق النص الموجود في القانون القائم).
والمستفاد مما تقدم ومن تقارير اللجان البرلمانية ومحاضر المناقشات التي دارت عند مناقشة هذا المشروع في مجلس النواب سنة 1930 أن مهمة ديوان المراقبة حسبما حددها ذلك المشروع إنما تنحصر في الإشراف على تنفيذ الميزانية نيابة عن السلطة التشريعية التي تقرر الأنظمة الدستورية بأن يرفع إليها الحساب الختامي لكل ميزانية للتحقق من سلامة تنفيذها وعدم مجاوزة الحدود والأوضاع التي أقرتها السلطة التشريعية. وقد عادت الحكومة في سنة 1942 كما سبق القول فتقدمت بمشروع قانون بإنشاء ديوان المحاسبة وضع على غرار المشروع المتقدم ذكره مع تعديلات طفيفة لا تغير من جوهر اختصاصه. وقد جاء في تقرير اللجنة المالية لمجلس النواب عن هذا المشروع أنه توجد دائماً في البلاد التي توطدت فيها النظم الدستورية هيئة مستقلة عن السلطة التنفيذية لمراقبة إيرادات الدولة ومصروفاتها طبقاً للميزانية التي يقرها البرلمان سنوياً. ويناط بهذه الهيئة التأكد من إنفاق المصروفات في الوجوه المبينة في الميزانية طبقاً للقوانين واللوائح المعمول بها في هذا الشأن وعدم تجاوز ما يقره البرلمان من الاعتمادات. والذي يبين من كل ما تقدم أن ديوان المحاسبة إنما أنشئ ليكون هيئة عليا مستقلة تختص بالإشراف على تنفيذ ميزانية الدولة والأشخاص المعنوية العامة وليحل في ذلك محل الإدارات التي كانت تقوم بهذا العمل من قبل في وزارة المالية على صورة ناقصة غير منتجة في تحقيق الأغراض المنشودة منها. ومن ثم فإنه يتعين القول بأن سلطات ديوان المحاسبة في مراقبة الجهات الإدارية بعيدة عن أن تتناول الناحية القانونية للقرارات التي تصدرها هذه الجهات في شئون الموظفين، إذ لا تتجاوز مهمة الديوان في هذا الشأن التحقق من سلامة تنفيذ النتائج المالية لهذه القرارات والخصم بها على الاعتمادات المخصصة لها في الميزانية حتى لا تتحلل السلطة التنفيذية من القيود الواردة فيها. ولعل هذا النظر واجد ما يؤيده فيما تضمنه القانون رقم 26 لسنة 1949 الخاص بضبط الرقابة على تنفيذ الميزانية والقانون رقم 132 لسنة 1952 بإنشاء المجلس التأديبي للمخالفات المالية من أحكام ما قصد بها إلا إلى أمر واحد هو تعزيز سلطة ديوان المحاسبة وتمكينه من مباشرتها على أكمل وجه وضمان تنفيذ توجيهاته وملاحظاته. وباستقراء هذه الأحكام يبين بجلاء أنها لا تواجه إلا المخالفات التي ترتكب ضد قانون ربط الميزانية وضد اللوائح المالية. وغني عن البيان أنه لو كانت سلطات ديوان المحاسبة في الرقابة والإشراف تمتد إلى غير ذلك من أنواع المخالفات لاشتملت تلك القوانين التي صدرت لتدعيم استقلال الديوان وتثبيت سلطاته على تمكينه من مواجهتها وتنفيذ توجيهاته بشأنها. فأحكام القانون رقم 26 لسنة 1949 الخاص بضبط الرقابة على تنفيذ الميزانية توجب على مديري الحسابات ورؤسائها ووكلائهم أن يمتنعوا عن التأشير على الأوامر الخاصة بصرف ماهيات الموظفين المعينين أو المرقين الواردة أسماؤهم في كشوف التعديلات الشهرية التي تبلغ إليهم من إدارة المستخدمين إذا لم ينص في هذه الكشوف إزاء كل اسم على أن التعيين أو الترقية قد تمت في حدود الدرجات المربوطة في الميزانية. كذلك أوجبت تلك الأحكام على مديري إدارات المستخدمين ورؤسائها الامتناع عن التأشير على القرارات الخاصة بتعيينات الموظفين وترقياتهم إذا ترتب على تنفيذها تعيين موظف احتساباً على وفور الميزانية أو ترقية موظف بصفة شخصية أو قيد موظف على درجة أدنى من درجته أو بمخالفة قواعد الميزانية. كذلك أفصحت المذكرة الإيضاحية للقانون رقم 132 لسنة 1952 بإنشاء المجلس التأديبي للمخالفات المالية عن حقيقة مهمة ديوان المحاسبة حين ذكرت أنه - لما تبين أن أحكام قانون إنشاء ديوان المحاسبة بالصورة التي صدر عليها لم تحقق الآمال التي كانت معقودة عليها - رؤى أنه لا سبيل لاحترام الأنظمة المالية وصون الأموال العامة إلا إذا أنشئت هيئة تأديبية مستقلة تكون بمنأى عن سلطان رؤساء المصالح وتختص بمحاكمة المسئولين عن مخالفة هذه الأنظمة ليكون في قيامها ما يشعر من تحدثه نفسه بمخالفة القوانين والأنظمة المالية أنه لا عاصم له من الجزاء. على أن الديوان يستند إلى حكم المادة السابعة ( أ ) من قانون إنشائه التي تقضي باختصاصه بالتثبت من أن الصرف تم طبقاً للقوانين واللوائح النافذة، للقول بأن سلطاته تمتد إلى الإشراف على سلامة القرارات الإدارية الصادرة بالتعيين أو الترقية أو بمنح علاوات من الناحية القانونية فضلاً عن الحسابية، إذ يرى الديوان أن الصرف لا يمكن أن يكون مطابقاً للقوانين واللوائح إذا كان ثمة ما يشوب القرار الذي يترتب عليه الصرف كأن يكون مخالفاً للأحكام المنظمة للتعيينات أو الترقيات في قانون التوظف.
ويرى القسم أن المقصود بهذا النص هو تخويل الديوان سلطة التحقق من مطابقة عملية الصرف ذاتها لأحكام القوانين واللوائح بحيث يكون للديوان التعقيب على عمليات الصرف التي لا تراعى فيها شرائطه وأوضاعه التي ترسمها اللوائح المالية والحسابية. يؤكد ذلك السياق الذي وردت فيه هذه العبارة من المادة السابعة إذ جاءت لاحقة على تخويل الديوان سلطة التحقق من أن المصروفات صرفت في الأغراض التي خصصت الاعتمادات من أجلها بما يضمن عدم خروج الوزارات والمصالح على تخصيص الاعتمادات التي أقرها البرلمان، ومتى تثبت الديوان من أن المبلغ الذي صرف قد أخذ من الاعتماد المخصص له فإنه يأتي بعد ذلك دور فحص عملية الصرف ذاتها للتأكد من سلامتها. ويعقب ذلك كما تبين من الفقرة (ب) تحقيق صحة المستندات المقدمة تأييداً للصرف والاستيثاق من مطابقتها للأرقام المدرجة بالحسابات.
لكل ما تقدم فإنه ليس لديوان المحاسبة بحكم قانون إنشائه سلطة مراجعة القرارات الخاصة بالتعيين في الوظائف أو الترقية أو منح علاوات إلا في سبيل التحقق من مطابقتها للأوضاع المالية والحسابية والقواعد التي تحكم تنفيذ الميزانية. على أن هذا لا يحول دون القول بأنه إذا تراءى لديوان المحاسبة عند فحصه لتلك القرارات أنها مشوبة من أية ناحية أخرى خلاف الناحية المالية، فيكون له أن ينبه ديوان الموظفين إلى هذه العيوب لتكون تحت نظره عند مباشرته للسلطات المخولة له في الإشراف على تنفيذ القوانين واللوائح الخاصة بشئون الموظفين.