مجموعة القواعد القانونية التى قررتها محكمة النقض والإبرام فى المواد الجنائية - وضعها محمود أحمد عمر باشكاتب محكمة النقض والإبرام
الجزء الثانى (عن المدة بين 6 مارس سنة 1930 وبين 31 أكتوبر سنة 1932) - صـ 403

جلسة الاثنين 4 يناير سنة 1932

تحت رياسة حضرة صاحب السعادة عبد العزيز فهمى باشا.

(312)
القضية رقم 53 سنة 2 القضائية

إهانة الموظفين العموميين:
( أ ) مدى انطباق المادتين 261 و265 ع.
(ب) سوء القصد. اشتمال المقال الواحد على عبارات الغرض منها الدفاع عن مصلحة عامة وعلى أخرى القصد منها التشهير والتجريح.
(جـ) النقد المباح. الخروج عن الحدّ. خروج متبادل. حكمه.
(المواد 159 و261/ 2 و265 فقرة أخيرة عقوبات)
1 - لا مصلحة للطاعن فى الطعن بأن جريمة الإهانة الوارد عليها حكم المادة 159 ع ينسحب عليها حكم الفقرة الثانية من المادة 261 ع لأنه على فرض انطباق التهمة المسندة إلى الطاعن على المادتين 261 و265 ع بدلا من المادة 159 (التى طبقتها المحكمة) فانه يشترط لإعفاء القاذف من العقاب طبقا لحكم الفقرة الثانية من المادة 261 والفقرة الأخيرة من المادة 265 عقوبات أن يثبت للمحكمة صحة الوقائع التى أسندها للموظف المقذوف وأن القذف كان منبعثا عن سلامة نية أى أنه قد رمى به إلى تحقيق مصلحة عامة. ولا يمنع ثبوت صحة الوقائع على فرض حصوله من الحكم بالعقوبة متى تبين أن القاذف كان يبغى التشهير والتجريح.
2 - لا مانع يمنع من اشتمال المقال الواحد وما يتبعه من رسم وغيره على عبارات يكون الغرض منها الدفاع عن مصلحة عامة وأخرى يكون القصد منها التشهير. وللمحكمة فى هذه الحالة أن توازن بين القصدين وتقدّر أيهما كانت له الغلبة فى نفس الناشر. ولا محل للقول بأن حسن النية يجب أن يقدّم فى كل الأحوال على ما عداه وإلا لاستطاع الكاتب تحت ستار الدفاع ظاهريا عن مصلحة عامة مزعومة أن ينال من كرامة الموظف العمومى ما شاء دون أن يناله القانون بعقاب.
3 - إذا كان للإنسان أن يشتدّ فى نقد أخصامه السياسيين فإن ذلك يجب ألا يتعدّى حدّ النقد المباح، فإذا خرج إلى حدّ الطعن والتجريح فقد حقت عليه كلمة القانون. ولا يبرر عمله أن يكون أخصامه قد سبقوه فى صحفهم إلى استباحة حرمات القانون فى هذا الباب ويكفى أن تراعى المحكمة هذا الظرف فى تقدير العقوبة.
الطعن المقدّم من محمد حسين هيكل بك ضدّ النيابة العامة فى دعواها رقم 1289 سنة 1931 المقيدة بجدول المحكمة برقم 53 سنة 2 قضائية.


الوقائع

اتهمت النيابة العمومية الطاعن المذكور بأنه فى يومى 19 و21 ديسمبر سنة 1930 بمدينة القاهرة وبلاد القطر المصرى بصفته المدير المسئول لجريدة السياسة اليومية ورئيس تحريرها أهان هيئة نظامية وهى مجلس وزراء الدولة المصرية بأن نشر فى الجريدة المذكورة فى العدد رقم 2536 مقالا تحت عنوان "نفقات حفلات الطرب. ألم يكن الفقراء أولى بها" نسب فيها إلى بعض الوزراء أنهم سلكوا سلوكا معيبا فى غير حدود الاحتشام وصدر منهم من المساخر ما لا يليق بأشخاصهم ومناصبهم كما نشر أيضا فى العدد رقم 2538 تحت عنوان "حفلات الابتهاج بالأزمة" رسما وعبارة يمثلان الهيئة المذكورة بحالة منافية للآداب. وطلبت معاقبته بالمواد 148 و150 و158 و160 من قانون العقوبات.
وأثناء نظر الدعوى أمام محكمة جنايات مصر طلبت النيابة معاقبته بالمادتين 148 و160 من القانون المذكور، وبعد أن سمعت الدعوى قضت حضوريا بتاريخ 25 مارس سنة 1931 عملا بالمواد 148 و150 و159 و167 من القانون المشار إليه بمعاقبة الطاعن بغرامة قدرها عشرة جنيهات مصرية وبإلزامه بأن ينشر الحكم فى جريدتين بمصاريف من طرفه.
فطعن المحكوم عليه على هذا الحكم بطريق النقض بتاريخ 9 أبريل سنة 1931 وقدّم حضرة المحامى عنه تقريرا بالأسباب بتاريخ 12 أبريل سنة 1931.


المحكمة

بعد سماع المرافعة الشفوية والاطلاع على الأوراق والمداولة قانونا.
من حيث إن الطعن قدّم وبينت أسبابه فى الميعاد فهو مقبول شكلا.
ومن حيث إن محصل الوجه الأوّل من أوجه الطعن أن من المتفق عليه علما وقضاء أن الجريمة الوارد عليها حكم المادة 159 من قانون العقوبات ينسحب عليها حكم الفقرة الثانية من المادة 261 عقوبات أى أن الطعن على الموظفين العموميين لا عقاب عليه متى ثبتت صحة الوقائع المسندة وكان الطعن لا يتعدّى وظيفة الموظف مع سلامة نية الطاعن كما قرّرت ذلك محكمة النقض بحكمها الصادر بتاريخ 6 نوفمبر سنة 1924 فاذا كان ما نشر ضدّ أحد الموظفين العموميين بسبب أعمال وظيفته يتضمن إهانة وقذفا وكان هناك ارتباط مباشر بين الإهانة والقذف الذى ثبتت وقائعه فمن الواجب الحكم ببراءة المتهم من الإهانة والقذف على السواء. على أنه يجب لتطبيق المادة 159 أن لا يقوم الدليل على صحة الوقائع وصدقها، أما وقد قام الدليل على صدق كل واقعة من المقال والصورة ولم يقم من جانب النيابة اعتراض من شأنه أن يشكك فى صحة الوقائع، كما أن ما ورد بالحكم ينبئ بتسليم المحكمة بهذه الحقيقة فحينئذ أصبح تطبيق المادة 159 عقوبات ممتنعا وبقى أن ما ورد بالمقال وبالصورة من المطاعن داخل تحت حكم الفقرة الثانية من المادة 261 والفقرة الأخيرة من المادة 265 عقوبات. وتكون المحكمة قد أخطأت فى حكمها فى تطبيق القانون والحكم بالعقوبة.
ومن حيث إن هذا الوجه مردود بأن لا مصلحة للطاعن من ورائه لأنه على فرض انطباق التهمة المسندة إليه على المادتين 261 و265 من قانون العقوبات بدلا من المادة 159 التى طبقتها المحكمة فانه يشترط لإعفاء القاذف من العقاب طبقا لحكم الفقرة الثانية من المادة 261 المشار إليها أن يثبت لمحكمة الموضوع أن القذف كان منبعثا عن سلامة نية أى أن يكون القاذف قد رمى به إلى تحقيق مصلحة عامة ولا يمنع ثبوت صحة الوقائع على فرض حصوله من أن تحكم المحكمة بالعقوبة متى استبان لها أن القاذف كان يبغى التشهير والتجريح وكذلك الحال فيما يتعلق بحكم الفقرة الأخيرة من المادة 265 عقوبات. وما دام الحكم المطعون فيه قد أثبت أن نشر المقال المتضمن للطعن والتعقيب عليه بالرسم (لم يدع مجالا للشك فى أن أهم أغراضه - أى الطاعن - من المقال والعبارات الجارحة الواردة فيه لم تكن الدفاع عن أموال الخزينة..... بل النكاية بالوزراء والتشهير بهم وإظهارهم فى أعين الأمة بمظهر المستهتر بالأزمة التى تعانيها وبمال الدولة) فلا فائدة للطاعن من استبدال مادة بمادة فى التطبيق القانونى لأن الإعفاء ممتنع على كل حال بانتفاء سلامة النية. وظاهر من مراجعة عبارات المقال الذى هو موضوع الطعن وما كتب بأسفل الرسم الذى نشر بعده أن استنتاج محكمة الموضوع فى محله ولا وجه للاعتراض عليه.
ومن حيث إن محصل الوجه الثانى أن أحد الشروط الواجب توفرها لتطبيق المادة 159 عقوبات هو سوء القصد وقد جاء الحكم خلوا مما يثبت توفره على المعنى الذى قررته محكمة النقض والإبرام بحكمها المشار إليه وكل الذى يفهم من قول محكمة الجنايات فى هذه المسألة أن نشر المقال كان لغرض هو الدفاع عن أموال الدولة وأن هذا الغرض مهم ولكن المتهم كان له غرض آخر أهم من ذلك ولا مجال للشك فيه وهو التشهير بالوزراء. ودللت المحكمة على هذا الاستنتاج بالرسم الذى أعقب المقال وكان الواجب أن تقدّم المحكمة حسن النية ما دام قد ظهر لها أن من أغراض الناشر الدفاع عن مصلحة عامة. إذ المصلحة العامّة حتى ولو كانت غرضا عرضيا تفوق حماية الموظف فهى أولى بالاعتبار. ومن كل ما تقدّم يكون سوء القصد منتفيا ومن الخطأ الحكم بالعقوبة.
ومن حيث إن هذا الوجه مردود بأنه لا مانع يمنع من اشتمال المقال الواحد وما يتبعه من رسم وغيره على عبارات يكون الغرض منها الدفاع عن مصلحة عامّة وأخرى يكون القصد منها التشهير وللمحكمة فى هذه الحالة أن توازن بين القصدين قصد التشهير وقصد الدفاع عن المصلحة العامّة وتقدّر أيهما كانت له الغلبة فى نفس الناشر حين نشر المقال المؤاخذ به. ولا محل للقول بأن حسن النية يجب أن يقدّم فى كل الأحوال على ما عداه وإلا لاستطاع الكاتب تحت ستار الدفاع ظاهريا عن مصلحة عامّة مزعومة أن ينال من عرض الموظف العمومى وكرامته ويحط من قدره وما شاء دون أن يناله القانون بعقاب وهذا ما لا يمكن التسليم به بحال. وقد أفاض الحكم المطعون فيه فى البحث فى هذا المعنى وذكر أنه لا يأخذ بالرأى الذى ذهب إليه بعض الأحكام السابقة. ثم بين القاعدة التى رآها أولى بالتطبيق فى مثل هذا المقام وهى أنه (إذا تبين أن غرض الكاتب الأوّل هو القذف فى خصومه والتشهير بهم وإهانتهم أخذ بهذا القصد وتعين فصل السب عن الموضوع الواقع عليه الجدل وتوقيع العقاب). وبتطبيق هذه القاعدة على وقائع الدعوى الحالية رأى (أن الرسم والعبارة المذيل بها قد حدّدا الغرض الأوّل من المقالات والعبارات الجارحة الواردة فيه وهو إهانة الوزراء وتسوىء سمعتهم فى نظر الأمة......) ثم ختم هذا البحث بقوله (ومن حيث إن قصد الضرر ظاهر من البيان المتقدّم ولا يحتاج إلى دليل آخر). ومن ذلك يبين أن الحكم المطعون فيه قد غلب سوء نية الطاعن فيما نشر فلا محل للقول بخلوه مما يفيد ذلك.
ومن حيث إن محصل الوجه الثالث أن جرائم الصحافة قوامها الاستنتاج من مدلول الألفاظ وتوخى معانيها. ومدلول الألفاظ والأساليب الكتابية فى تغير وتحوّل طبقا لظروف كل بلد السياسية والاجتماعية الخاصة وقد قررت محكمة النقض والإبرام المصرية متبعة ما استقر عليه رأى فقهاء القانون فى فرنسا وما استقرت عليه أحكامها "أن المناقشات العمومية مهما بلغت من الشدّة فى نقد أعمال وآراء الأحزاب السياسية تكون فى مصلحة الأمة التى يتسنى لها بهذه الطريقة أن تكوّن لها رأيا صحيحا فى الحزب الذى تثق به وتؤيده الخ" وهذا الذى قررته محكمة النقض والإبرام ينطبق كل الانطباق على الدعوى الحالية. وقد قدّم الطاعن للمحكمة عدّة فقرات من جرائد عديدة تتصل بالوزراء وبالحزب الذى يرأسه رئيس الوزراء. وفى تلك الجرائد من الطعن على حزب الأحرار الدستوريين وأشخاص رجاله وأعراضهم ما لا يسيغه الأدب ومع ذلك فلم يكن شىء منه محل مؤاخذة جنائية. ولا وجه للتشبيه بين ما نشرته جريدة السياسة ورفعت عنه الدعوى العمومية وبين ما تنشره جرائد الوزارة. فرفع الدعوى العمومية على رئيس تحرير السياسة فى هذه الظروف والحكم عليه من أجل المقال الذى كان موضوع المحاكمة إنما هو خطأ لا يقرّه القانون وفيه معنى توزيع العدالة بين الصحف والهيئات السياسية بمقاييس مختلفة وهذا يخالف المبدأ الذى قررته محكمة النقض والإبرام وثبتت عليه.
ومن حيث إن هذا الوجه مردود بأنه مع التسليم بأن للطاعن أن يشتد فى نقد أعمال أخصامه ويقسو عليهم ما شاء إلا أن ذلك كله يجب ألا يتعدّى حدّ النقد المباح فاذا خرج بذلك إلى حدّ الطعن والتشهير والتجريح فقد حقت عليه كلمة القانون ولا يبرر عمله - كما قالت محكمة الموضوع بحق - أن يكون أخصامه قد سبقوه فى صحفهم إلى استباحة حرمات القانون فى هذا الباب، ويكفى أن الحكم المطعون فيه قد راعى هذا الظرف عند تقدير العقوبة كما جاء بحيثيته الأخيرة وهذا أقصى ما يستطيع القاضى عمله.
ومن حيث إن محصل الوجه الرابع أن من المقرر أن جريمة القذف أو السب أو الإهانة لا تكون إلا عما نشر فعلا لا على الوقائع والمعلومات التى تكون فى ذهن الكاتب ولم ينشرها. فقد قرر المتهم بعض معلومات ذكرها بالتحقيق بخصوص دعوة بعض الوزراء للعشاء بمنزل أحد أعيان مدينة الأقصر والمحكمة فى هذه المسألة قالت إنه قد أبيح للمتهم إقامة الدليل عنها فعجز وهذا القول من جانب المحكمة فضلة منقطعة الصلة بالموضوع. على أن المحكمة بقولها هذا نفت أهم ركن من أركان التهمة الواردة عليها المادة 159 عقوبات التى طبقتها وهو وجوب أن يكون الطعن على الموظفين العموميين بسبب وظيفتهم ودعوة الوزراء هذه ليست من أعمال وظائفهم ونقد هذا العمل ليس بسبب الوظيفة ففى الحكم خطأ فى تطبيق القانون على الواقعة القائمة عليها الدعوى العمومية.
ومن حيث إن هذا الوجه مردود من جهة بأن الحكم المطعون فيه قرر أن الطعن فى حق الوزراء حاصل بسبب أمور تتعلق بوظائفهم وقد جرى على قاعدة عدم جواز الإثبات فى هذه القضية كما يفهم من أسبابه السابقة على النبذة التى بنى عليها الطاعن هذا الوجه من أوجه طعنه - والقول بعدم جواز الإثبات هو الواجب الأخذ به فى التهمة الحالية للأسباب التى سبق ذكرها عند الرد على الوجه الأوّل، فإذا كان الحكم قد أشار بعد ذلك إلى أن الطاعن قد أبيح له إثبات نقطة معينة فعجز عن إثباتها فانما كان ذلك من باب استطراد القول. على أن هذه العبارة لا تقدّم ولا تؤخر فى جوهر الموضوع وحذفها لا ينقص من قيمة الحكم شيئا كما أن بقاءها لا يصلح أن يتخذ تكأة للطعن فيه بحال. وهذا الوجه مردود من جهة أخرى بأنه لا مصلحة للطاعن فى التمسك به لأن تمسكه به قد جره إلى التسليم بأن مما طعن به الوزراء فى مقاله الذى نشره أمورا لا علاقة لها بحياتهم العمومية بل هى أدخل فى حياتهم الشخصية وقد اضطر فى التحقيق إلى شرح ما رمى إليه بمقاله فى هذا الشأن فأتى بوقائع يقول هو فى طعنه إنها ليست من أعمال وظائفهم. وبما أن أقل ما توصف به تلك المطاعن الواردة فى المقال والرسم أنها سب مما تنطبق عليه المادة 265 فمع استبعاد الحيثية التى يشكو منها الطاعن واعتبارها كأن لم تكن ما دام السب فى هذه الصورة التى لا تعلق لها بالوظيفة لا يجوز فيه الإثبات. يبقى بعد هذا أن الطاعن قد ناقض نفسه إذ ادعى أن مقاله لم ينشر إلا للدفاع عن مصلحة عامة هى التى اتخذها عنوانا لذلك المقال على حين أن قلمه لم يعف فى هذا المقال عن تناول الوزراء فى شخصياتهم ورميهم بأمور لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالمصلحة العامة التى يزعم الدفاع عنها كما يبقى أن العقوبة التى قضى بها عليه مبررة لدخولها فى حدود المادة 265 المذكورة.
ومن حيث إنه لما تقدّم يتعين رفض الطعن.