مجموعة القواعد القانونية التى قررتها محكمة النقض والإبرام فى المواد الجنائية - وضعها محمود أحمد عمر باشكاتب محكمة النقض والإبرام
الجزء الثانى (عن المدة بين 6 مارس سنة 1930 وبين 31 أكتوبر سنة 1932) - صـ 410

جلسة الاثنين 4 يناير سنة 1932

تحت رياسة حضرة صاحب السعادة عبد العزيز فهمى باشا.

(313)
القضية رقم 910 سنة 2 القضائية

سقوط الدعوى العمومية بمضى المدّة:
( أ ) إجراءات التحقيق القاطعة للمدّة. ماهيتها.
(ب) متى يكون أمر الحفظ قاطعا للمدّة؟
(المواد 29 و42 و280 تحقيق)
1 - إجراءات التحقيق التى تشير إليها المادة 280 من قانون تحقيق الجنايات وتنص على أنها قاطعة لسقوط الدعوى العمومية إنما هى الإجراءات التى تصدر من سلطة مختصة بالتحقيق أى من النيابة سواء بنفسها أو بواسطة من تندبهم هى لذلك من مأمورى الضبطية القضائية بمقتضى أمر منها ثابت بالكتابة مبين فيه - ولو بطريق الإيجاز - المسائل التى يكلف هؤلاء المأمورون بتحقيقها.
2 - أمر الحفظ الذى يصدر من النيابة إيذانا منها بأنها لم تجد - بحسب تقديرها - من المحاضر أو التبليغات المقدّمة لها أن هناك جريمة وقعت لا يعتبر من إجراءات التحقيق ولا يقطع المدّة. أما قرار الحفظ المشار إليه بالمادة 42 من قانون تحقيق الجنايات فإنه لما كان حاصلا بعد التحقيق فهو إجراء من إجراءات الدعوى العمومية حدث بعد تحريكها بالتحقيق فيها وهو معتبر قانونا أنه هو النتيجة المتممة لدور التحقيق. فهو إذن من إجراءاته القاطعة للمدّة بخلاف أمر الحفظ الأوّل فإنه من عمل النيابة - لا بصفتها محققة - بل بصفتها رئيسة للضبطية القضائية التى من مأموريتها التحرّى والاستدلال. وهو إيذان منها بأنه لا محل لتحريك الدعوى العمومية بالشروع فى تحقيقها. وما دامت الدعوى العمومية لم تتحرّك لا بهذا الأمر ولا من قبله فمما يخالف المنطق أن يقال إن مثله هو إجراء من إجراءاتها قاطع لمدّة سقوطها.
الطعن المقدّم من أمين عبد العزيز علام ضد النيابة العامة فى دعواها رقم 437 سنة 1931 المقيدة بجدول المحكمة رقم 910 سنة 2 قضائية والست تفيدة سيد أحمد مدعية بحق مدنى.


الوقائع

رفعت المدعية بالحق المدنى هذه الدعوى مباشرة أمام محكمة جنح عابدين الجزئية ضد الطاعن المذكور واتهمته بأنه فى أوائل سنة 1924 بدائرة قسم عابدين ارتكب تزويرا فى إقرارات عرفية بجعل واقعة مزوّرة فى صورة واقعة صحيحة وذلك بأن زوّر ثلاثة إيصالات مخالصة ووقع عليها بختم حامد أفندى شكرى إضرارا بها. وطلبت معاقبته بالمادة 183 من قانون العقوبات مع الحكم لها بمبلغ خمسة جنيهات تعويضا.
وبعد أن سمعت تلك المحكمة الدعوى حكمت فيها حضوريا بتاريخ 28 مارس سنة 1929 عملا بالمادة السابقة بحبس المتهم ثلاثة شهور مع الشغل وألزمته بأن يدفع للمدعية بالحق المدنى مبلغ خمسة جنيهات مصرية تعويضا والمصاريف المدنية ومائة قرش أتعابا للمحاماة.
فاستأنف المتهم هذا الحكم بتاريخ 30 مارس سنة 1929.
وفى أثناء نظر هذه الدعوى أمام محكمة مصر الابتدائية بهيئة استئنافية دفع الحاضر مع المتهم فرعيا بعدم قبول الدعوى لمضى المدّة والحاضر مع المدعية بالحق المدنى طلب رفض هذا الدفع والمحكمة ضمت الدفع الفرعى للموضوع، وبعد أن سمعت دفاع الطرفين قضت حضوريا بتاريخ 29 نوفمبر سنة 1930 بقبول الاستئناف شكلا وبرفضه موضوعا وتأييد الحكم المستأنف أخذا بأسبابه التى منها أن الدعوى لم يسقط الحق فى إقامتها بمضى المدّة لأن تحقيقات البوليس والنيابة انتهت بتاريخ 24 نوفمبر سنة 1924 ثم حركتها المدعية بدعواها هذه فى 31 مارس سنة 1927 أى بعد سنتين وأربعة أشهر. وألزمت المتهم بالمصاريف المدنية الاستئنافية.
فطعن المحكوم عليه فى هذا الحكم بطريق النقض والإبرام بتاريخ 15 ديسمبر سنة 1930 وقدّم تقريرا بأسباب طعنه هذا فى 16 منه.


المحكمة

بعد سماع المرافعة الشفوية والاطلاع على الأوراق والمداولة قانونا.
من حيث إن الطعن قدّم وبينت أسبابه فى الميعاد فهو مقبول شكلا.
ومن حيث إن محصل الوجه الأوّل من أوجه الطعن أن بالحكم المطعون فيه خطأ فى تطبيق القانون لأن الطاعن دفع أمام المحكمة الاستئنافية بسقوط الدعوى العمومية بمضى أكثر من ثلاث سنوات بين تاريخ الواقعة المنسوبة إليه وهو أوّل أبريل سنة 1924 وتاريخ رفع دعوى الجنحة المباشرة من المدعية بالحق المدنى وهو 31 مارس سنة 1927؛ وهذه المدّة لم ينقطع سريانها بأى إجراء من الإجراءات التى يمكن أن يترتب عليها الانقطاع. وأما التحقيقات التى عملت فى الشكوى المقدّمة من المدعية بالحق المدنى بتاريخ 14 يونيه سنة 1924 فلا تقطع المدة كما ذهبت إلى ذلك محكمة أول درجة خطأ لأن هذه التحقيقات عملت بواسطة البوليس بدون انتداب خاص من النيابة فلا تعتبر قانونا من أعمال التحقيق المنصوص عليها فى المادة 280 من قانون تحقيق الجنايات.
ومن حيث إن واقعة هذه المادة أن المدعية بالحق المدنى قدّمت بلاغا بتاريخ 4 يونيه سنة 1924 إلى النائب العمومى ضد الطاعن لتزويره إيصالين على زوجها المتوفى: أحدهما بمبلغ خمسة آلاف قرش، والثانى بمبلغ 58 جنيه فأحال النائب العمومى هذا البلاغ إلى نيابة عابدين بتاريخ 9 يونيه سنة 1924 ونيابة عابدين أرسلته بتاريخ 11 يونيه سنة 1924 إلى قسم عابدين "بالإحالة" فسأل معاون بوليس القسم المشتكية عن شكواها بتاريخ 14 يونيه سنة 1924 ثم أرسلت الأوراق إلى نقطة طنوب لأخذ أقوال المشكو فى حقه فاستحضره ملاحظ بوليس النقطة وسأله فى يوم 5 يوليه سنة 1924 عما نسب إليه ثم أعاد الأوراق إلى قسم عابدين، وبتاريخ 21 يوليه سنة 1924 سأل جاويش بقسم عابدين الشاكية عما قرره المشكو فى حقه. وبتواريخ 23 يوليه و2 و3 و4 من شهر أغسطس سنة 1924 أجرى البوليس تحرّيات عن شهود استشهد بهم المشكو فى حقه ولم يمكن الاستدلال عليهم ثم أرسلت الأوراق بمعرفة البوليس إلى مركز تلا بتاريخ 4 أغسطس سنة 1924 لتكليف المتهم بتقديم الإيصالات المطعون فيها بالتزوير فاتصل مركز تلا بملاحظ بوليس طنوب وهذا طلب من المشكو فى حقه الإيصالات المذكورة وأرسلها إلى مركز تلا والمركز سلمها بدوره إلى نيابة تلا فأرسلتها إلى نيابة عابدين بتاريخ 20 أكتوبر سنة 1924 للتصرف "حيث إنه ظاهر من أقوال المشكو فى حقه أن الإيصال المطعون فيه بالتزوير تحرّر بدائرة نيابة عابدين". وفى يوم 30 أكتوبر سنة 1924 أرسلت نيابة عابدين إلى مأمور قسم عابدين الشكوى ومعها المظروف المحتوى على السندين المطعون فيهما بالتزوير لتسليمهما إلى المشكو فى حقه وقيد الأوراق إداريا "مع تفهيم المشتكية برفع دعواها مباشرة فى ظرف شهر من تاريخه وفى نهاية هذا الشهر إذا لم ترفع الدعوى تحفظ الأوراق". وبتاريخ 18 نوفمبر سنة 1924 أعاد قسم عابدين الأوراق إلى نيابة عابدين "بعد قيدها بنمرة 81 إدارى وقد سلم الإيصالان لمن قدّمهما" فكتب وكيل نيابة عابدين تحت ذلك بتاريخ 24 نوفمبر سنة 1924 "تبقى إلى أن ينتهى الميعاد وتحفظ".
ومن حيث إنه بتاريخ 31 مارس سنة 1927 رفعت الشاكية دعواها مباشرة إلى محكمة عابدين الجزئية على المشكو فى حقه لمعاقبته طبقا لنص المادة 183 من قانون العقوبات مع إلزامه بأن يدفع لها 500 قرش على سبيل التعويض مع المصاريف والأتعاب وقالت بعريضة هذه الدعوى إن المشكو فى حقه زوّر الإيصالات قبل وفاة زوجها (الحاصلة فى 2 أبريل سنة 1924 على ما ذكره الحكم الابتدائى الصادر فى القضية الحالية)، كما قالت أيضا إنها بلغت عن هذا التزوير وضبطت له واقعة بقسم عابدين بتاريخ 2 أبريل سنة 1924.
ومن حيث إنه من يوم 2 أبريل سنة 1924 على الأقل إلى يوم 31 مارس سنة 1927 وهو تاريخ رفع دعوى الجنحة المباشرة يكون قد مضى أكثر من ثلاث سنوات هجرية فيجب البحث فيما إذا كان قد تخلل هذا الزمن ما يصح أن يوصف بأنه إجراء من إجراءات التحقيق يمكن أن يترتب عليه - كمقتضى المادة 280 من قانون تحقيق الجنايات - انقطاع المدة المقرّرة لسقوط الحق فى إقامة الدعوى العمومية أم لم يكن هناك إجراء من إجراءات التحقيق بالمعنى الذى أراده القانون وبالتالى لم يحصل انقطاع فيكون قد مضى من تاريخ الحادثة المسندة إلى الطاعن إلى يوم رفع الجنحة المباشرة عليه من المدّعية بالحق المدنى زمن مقدّر بثلاث سنين هجرية على الأقل وهو الزمن الكافى فى حكم المادة 279 من قانون تحقيق الجنايات لسقوط الحق فى إقامة الدعوى العمومية فى مواد الجنح.
ومن حيث إن الحكم المطعون فيه أخذ بأسباب الحكم المستأنف وقد جاء بأسباب هذا الحكم الأخير ما يفيد عدم السقوط إذ قال "إن تحقيقات البوليس والنيابة انتهت بتاريخ 24 نوفمبر سنة 1924 ثم حركتها المدعية بدعواها المباشرة بتاريخ 31 مارس سنة 1927 أى بعد سنتين وأربعة أشهر قبل أن يسقط الحق فى إقامة الدعوى العمومية" فيكون الحكم المطعون فيه قد أخذ بفكرة عدم السقوط أيضا ورأى أن ما تم من الإجراءات فى الدعوى هى إجراءات تحقيق قاطعة للمدة وأن التهمة لا تزال قائمة وبذلك حكم بتأييد الحكم المستأنف القاضى بادانة الطاعن.
ومن حيث إن سقوط الحق فى إقامة الدعوى العمومية بمضى المدة هو من النظام العام فمن الواجب الاحتياط فى تحديد معنى عبارة "إجراءات التحقيق" الواردة بالمادة 280 من قانون تحقيق الجنايات حتى لا يدخل فى تلك الإجراءات ما ليس منها.
ومن حيث إن المادة 280 منقولة بنصها عن المادة 253 من قانون تحقيق الجنايات القديم الصادر فى 13 نوفمبر سنة 1883 والنص الفرنسى فى المادتين الجديدة والقديمة لعبارة "إجراءات التحقيق" هو (actes ďinstruction) فتحديد معنى هذه العبارة يقتضى تعيين السلطات التى كانت إجراءاتها تعتبر تحقيقا (instruction).
وحيث إن قانون سنة 1883 كان يجعل التحقيق (instruction) من اختصاص قاضى التحقيق وحده ولم يكن يجعل للنيابة العامة ولا لرجال الضبطية القضائية أى تدخل فيه إلا فى حالة مشاهدة الجانى متلبسا بالجناية (مادة 13) أو فى حالة ندب أحد مأمورى الضبطية القضائية لإجرائه (مادة 12). على أن القاضى ما كان له بحسب هذه المادة ندب أحد من رجال النيابة العامة. وقد كان مقتضى المادتين 33 و34 منه أن التبليغات والمحاضر التى ترد من الضبطية القضائية للنيابة (أى محاضر التحريات وجمع الاستدلالات التى تحرّر فى غير حالة التلبس عملا بالمادة 11) يجوز أن تقدّمها النيابة لقاضى التحقيق مع بيان طلباتها. وكانت المادتان المذكورتان واردتين فى الباب الثالث الذى عنوانه "فى طلب التحقيق وفى إجرائه وفى الدعوى العمومية". فنصوص القانون القديم كانت واضحة فى الدلالة على أن أعمال التحقيق (instruction) هى من اختصاص قاضى التحقيق وحده وأن الإجراءات التى يباشرها فى هذا الصدد وكذلك أعمال النيابة والبوليس القضائى فى حالة التلبس وأعمال البوليس القضائى فى حالة ندبه من قبل القاضى تلك فقط هى التى يطلق عليها أنها إجراءات تحقيق فهى إذن دون غيرها التى كانت تشير إليها المادة 253 وتنص على أنها قاطعة لمدّة سقوط الدعوى العمومية. أما غير تلك الإجراءات من أعمال النيابة والبوليس فما كان القانون يعتبره تحقيقا بل كان يعتبره مجرّد استدلالات وإيضاحات واجب بمقتضى المادة 11 على رجال الضبطية القضائية جمعها وإرسالها للنيابة ولذلك فما كان لها أى قوّة فى قطع سريان مدّة السقوط.
وحيث إن الشارع رأى أن يجعل التحقيق (instruction) من اختصاص النيابة العامة وألا يبقى لقاضيه سوى ما ترى النيابة أن تطلب إليه تحقيقه من مواد الجنايات وجنح التزوير والنصب وخيانة الأمانة فأصدر قانون 28 مايو سنة 1895 ألغى به مواد الباب الثالث من قانون سنة 1883 وهى المواد من 32 إلى 39 واستبدل بها سبع عشرة مادة جعل عنوانها "فى إجراءات التحقيق بالنيابة العمومية وفى الحبس الاحتياطى وفى الدعوى العمومية". وكان نص المادة الأولى منها هكذا "على قلم النائب العمومى بعد الاطلاع على ما يرد إليه من المحاضر المحرّرة بمعرفة رجال الضبط أو على ما يصل إليه من التبليغات والأخبار أن يشرع فى إجراءات التحقيق التى يرى له لزومها لظهور الحقيقة سواء كان بنفسه أو بواسطة مأمورى الضبطية القضائية بناء على أوامر تصدر لهم منه". فبمقتضى هذا النص آلت للنيابة العامة سلطة التحقيق وأصبح لها أن تشرع هى فى إجراءاته إما بنفسها أو بواسطة رجال الضبطية القضائية عقب وصول محاضر البوليس أو التبليغات إليها وعلمها بما فيها وذلك بدل أن تطلب التحقيق من قاضيه كما كانت تقضى به المادة 33 الملغاة كما أصبحت الإجراءات التى تباشرها هى أو التى يباشرها البوليس القضائى بأمر منها أو التى يباشرها هذا البوليس فى حالة التلبس بالجريمة هى وحدها التى تقطع المدّة عملا بالمادة 253 القديمة لأنها إجراءات تحقيق.
وحيث إنه عند تعديل القانون فى سنة 1904 قد احتفظ بسلطة النيابة فى التحقيق بدل قاضيه وبقى عنوان الباب الثالث على حاله كما كان بقانون 28 مايو سنة 1895 ولكن عدّلت مواده التعديل المناسب. فالمادة الأولى جعلت هى المادة 29 فى القانون الجديد ولكن صار نصها كالآتى "إذا رأت النيابة العمومية (وفى النص الفرنسى قدّرت "estime") من بلاغ قدّم لها أو محضر محرّر بمعرفة أحد رجال الضبط أو من أى إخبار وصل إليها وقوع جريمة (وفى النص الفرنسى أن جريمة وقعت "qu’une infraction a été commise") فعليها أن تشرع فى إجراءات التحقيق التى ترى لزومها لظهور الحقيقة سواء بنفسها أو بواسطة مأمورى الضبطية القضائية بناء على أوامر تصدرها إليهم بذلك". وواضح أن هذا التعديل كان ضروريا لإزالة ما كان قد يتوهم من نص المادة الأولى من قانون مايو سنة 1895 من أنه على النيابة الشروع فى التحقيق بمجرّد وصول التبليغات أو محاضر البوليس إليها وأن لا خيار لها فى حفظ المادة وصرف النظر عن الشروع فى التحقيق حتى ولو تبينت من البلاغ أو من محضر البوليس أن لا جريمة تستدعى تحقيقات. أتى هذا التعديل فأزال اللبس إذ لم يوجب على النيابة الشروع فى التحقيق بنفسها أو بواسطة البوليس إلا فى صورة ما إذا وجدت - بحسب تقديرها - من المحاضر أو التبليغات المقدّمة لها أن هناك جريمة وقعت. ومقتضى هذا أنها إن لم تقدّر أن جريمة وقعت فليست مكلفة بالشروع فى التحقيق بل لها حفظ الأوراق. والحفظ فى هذه الحالة يختلف اختلافا كليا عن الحفظ المشار إليه بالمادة 42 من القانون الجديد من جهة أن هذا الأخير لما كان حاصلا بعد التحقيق فهو إجراء من إجراءات الدعوى العمومية حدث بعد تحريكها بالتحقيق فيها وهو معتبر قانونا أنه هو النتيجة المتممة لدور التحقيق فهو إذن من إجراءاته القاطعة للمدّة بخلاف الحفظ الأوّل فانه من عمل النيابة لا بصفتها محققة بل بصفتها رئيسة للضبطية القضائية التى من مأموريتها التحرّى والاستدلال وهو إيذان منها بأن لا محل لتحريك الدعوى العمومية بالشروع فى تحقيقها؛ وما دامت الدعوى العمومية لم تتحرّك لا بهذا الأمر ولا من قبله فما يخالف المنطق أن يقال إن مثله هو إجراء من إجراءاتها قاطع لمدّة سقوطها.
وحيث إنه يبقى بعد ذلك معرفة كنه الأوامر التى تصدرها النيابة العامة لمأمورى الضبطية القضائية (البوليس) من جهة شكلها وموضوعها حتى يكون عملهم بناء عليها هو من إجراءات التحقيق ويمكن أن يترتب عليه ما يترتب على تحقيق النيابة من أثر قطع مدّة السقوط.
وحيث إنه متى لوحظ أن أعمال التحقيق هى من الأعمال القضائية فالأمر الذى يصدر من النيابة العامة لمأمورى الضبطية القضائية بمقتضى المادة 29 هو أمر قضائى لا شك فى صفته هذه. ويجب إذن أن يكون ثابتا بالكتابة كما هو الشأن فى كل الأوامر القضائية وأن يكون الصادر هو إليه مأمورا من مأمورى الضبطية القضائية معينا بوظيفته على الأقل ولو فى جملة موظفى الجهة - هذا من جهة شكل الأوامر؛ أما من جهة موضوعها فانه بإمعان النظر فى نص المادة 29 يرى أن تلك الأوامر يجب أن تكون موضحة للنقط التى يكلف المأمور بتحقيقها وذلك:
(أوّلا) لأن قول تلك المادة "أن تشرع فى إجراءات التحقيق التى ترى لزومها لظهور الحقيقة" دال بذاته على أن هناك أمورا من الضرورى كشفها حتى تتبين الحقيقة. وإذا كانت النيابة نفسها فى غير حاجة إلى بيان هذه الأمور عندما تشرع فى التحقيق بنفسها فانها عندما تكلف مأمور الضبطية بالتحقيق لابد لها بطبيعة الحال من أن تبين له هذه الأمور التى رأت ضرورة كشفها. ففى النص من الإشارة ما يقتضى هذا البيان خصوصا متى لوحظت كلمة "بذلك" فى عبارة "بناء على أوامر تصدرها إليهم بذلك" وأن هذه الكلمة لم تكن موجودة فى عبارة المادة الأولى من قانون مايو سنة 1895.
(ثانيا) إن الأوامر المذكورة لو صح صدورها بتكليف المأمورين المذكورين "بالتحقيق" فقط بدون بيان آخر للزم على ذلك أن ينظر أولئك المأمورون فى البلاغات التى ترسل إليهم من النيابة أو محاضر التحريات التى تعاد إليهم منها ويجتهدوا برأيهم فى تعرف ماذا يجب عليهم عمله من "إجراءات التحقيق التى يرون هم لزومها لظهور الحقيقة". وبهذه المثابة يكونون قد نقلوا لأنفسهم حقا لم يعطه نص المادة 29 إلا لرجال النيابة ولم يجعل لهؤلاء أن ينقلوه لمأمورى الضبطية القضائية، لا بطريق اللزوم الضمنى كما فى هذه الصورة، ولا بطريق التصريح كما لو كتبوا لهم أنهم "يأمرونهم بعمل إجراءات التحقيق التى يرى هؤلاء المأمورون لزومها لظهور الحقيقة". وهذا النظر يؤكد أيضا ضرورة بيان الأمور التى تكلف النيابة مأمورى الضبطية القضائية بتحقيقها.
(ثالثا) إن الشارع قد انتزع سلطة التحقيق من قاضيه وجعلها حقا أصيلا للنيابة العامة لما رآه فى رجالها من الضمانات التى كانت فى قضاة التحقيق. فاذا ساغ للنيابة كلما ورد عليها تبليغ بحادث أن ترسله للبوليس "للتحقيق" فحسب لترتب على ذلك أن يكون فى استطاعة النيابة التسلب من سلطتها وإحالتها جملة واحدة لرجال الضبطية القضائية الذين لا يشترط فيهم توفر تلك الضمانات. ومن غير المقبول فهم أن عبارة الشارع تتسع لمثل هذه النتيجة مهما تكن بعيدة الوقوع. ولا يعترض هنا بأن الشارع أجاز لرجال الضبطية القضائية التحقيق فى حالة مشاهدة الجانى متلبسا بالجناية وأن لهم متى ابتدءوا فيه أن يتمموه متى أذن لهم بذلك من يحضر من رجال النيابة العامة (مادة 11 و25 جنايات) - لا يعترض بذلك لأن هذه رخصة استثنائية علتها ضرورة الإسراع فى إثبات معالم الواقعة وحقائقها قبل تبدّدها وانطماسها ثم عدم إيقاع الاضطراب باستبدال محقق بمحقق آخر بدأ فى العمل وعرف من وجوه المادة ما لا يعرفه البديل.
وحيث إنه يجب إذن أن يفهم أن الأوامر التى تصدرها النيابة لمأمورى الضبطية القضائية بمقتضى المادة 29 من قانون تحقيق الجنايات ينبغى أن يكون مبينا بها ولو بطريق الإِيجاز ما ترغب النيابة تكليفهم به من إجراءات التحقيق وأن الشأن فيها من هذه الجهة هو الشأن فى الانتدابات التى كان ولا يزال يجريها قاضى التحقيق؛ فان لم تبين تلك الأوامر شيئا فلا يمكن اعتبارها إلا مجرّد إخطار مقصود به عمل تحرّيات وجمع استدلالات توطئة للتحقيق الذى يحصل من بعد إذا اقتضاه الحال. والتحريات وجمع الاستدلالات الموصلة للتحقيق والدعوى هى مما يدخل فى وظيفة أعضاء النيابة العمومية وغيرهم من رجال الضبطية القضائية بمقتضى المادة الثالثة من قانون تحقيق الجنايات، ومما يدخل بصفة خاصة فى واجبات من عدا أعضاء النيابة العمومية من رجال الضبطية القضائية بمقتضى المادة العاشرة منه.
وحيث إنه متى تقرر ذلك سهلت معرفة ما للإجراءات التى حصلت فى الدعوى العمومية المطعون الآن فى الحكم الصادر فيها من القوّة فى قطع سريان مدّة سقوطها فان كانت إجراءات تحقيق حصلت بالصفة المشار إليها فيما تقدّم قطعت تلك المدّة وإلا فلا.
وحيث إنه يتضح مما سبق سرده من الوقائع أن كل ما فعلته النيابة بخصوص الشكوى التى قامت عليها هذه الدعوى أنها بمجرّد وصولها إليها أرسلتها إلى قسم عابدين بالإحالة وبعد ذلك دارت الأوراق بين بوليس قسم عابدين وبوليس نقطة طنوب وبوليس مركز تلا دورة سئلت أثناءها المشتكية عن شكواها، كما سئل المشكو فى حقه عما هو منسوب إليه وطلب منه تقديم الأوراق المطعون فيها بالتزوير فقدّمها وتولت نيابة تلا إرسالها إلى نيابة عابدين وهذه الأخيرة ردت الأوراق والإيصالات إلى قسم عابدين لتسليم الإيصالات إلى مقدّمها وقيد الأوراق إداريا والتنبيه على المشتكية برفع دعواها مباشرة فى الميعاد المعين فلم ترفع المشتكية دعوى فى الميعاد المضروب وانتهى الأمر بحفظ الأوراق بناء على تأشير النيابة الحاصل بتاريخ 24 نوفمبر سنة 1924.
وحيث إنه لا يوجد فى ماجريات هذه الدعوى أى إجراء من إجراءات التحقيق، إذ النيابة نفسها لم تباشر فيها تحقيقا ولم تصدر فيها أمرا بالتحقيق مبينا للأمور الواجب تحقيقها بل ولا أمرا ولو بالتحقيق فقط؛ وكل ما كان منها هو مجرّد إرسال الشكوى للبوليس "بالإحالة" ومفهوم ذلك أن النيابة - وهى مديرة الضبطية القضائية (مادة 60 و61 من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية) ومن وظيفتها أيضا جمع الاستدلالات قبل التحقيق بمقتضى المادة 3 من قانون تحقيق الجنايات كباقى مأمورى الضبطية القضائية - قد أعلمت البوليس بتلك الشكوى حتى يقوم بواجبه من الحصول على جميع الإيضاحات وإجراء جميع التحرّيات اللازمة لتسهيل تحقيق الوقائع المبلغ عنها وتحرير محضر بما يتم على يده من تلك الإجراءات وإرساله للنيابة مع الأوراق الدالة على الثبوت كما تقضى بذلك كله المادة العاشرة من ذلك القانون التى بينت ما يجب على مأمورى الضبطية القضائية من التحرّى وجمع الاستدلالات بشأن الوقائع التى تبلغ إليهم أو التى يعلمون بها بأى كيفية كانت ويدخل فى ذلك بطبيعة الحال الإجراءات التى يجب عليهم القيام بها فى الشكاوى التى تصل إلى علمهم من طريق إحالتها إليهم من النيابة.
وحيث إن أمر الحفظ الذى صدر من النيابة فى هذه الدعوى إنما هو إجراء اختتمت به النيابة أعمال التحرّيات والاستدلالات التى قام بها البوليس إيذانا منها بأنها لم تر فى تلك التحرّيات ما يجعلها تقدّر أن هناك جريمة وقعت وأن من اللازم الشروع فى تحقيقها. ومثل هذا الأمر كما يفهم مما ذكر آنفا لا يعدّ مطلقا من إجراءات التحقيق ولا يقطع المدّة.
وحيث إن المدّة التى انقضت بين يوم 2 أبريل سنة 1924 تاريخ وفاة مورّث المدّعية ويوم 31 مارس سنة 1927 تاريخ رفع دعوى الجنحة المباشرة بمعرفتها هى مدّة تزيد على ثلاث سنوات هجرية فهى كافية لسقوط الحق فى رفع الدعوى العمومية ويكون الحكم المطعون فيه قد أخطأ إذ اعتبر أن الدعوى العمومية ما زالت قائمة، وإذن يتعين نقضه وبراءة الطاعن مما أسند إليه بلا حاجة إلى بحث أوجه الطعن الأخرى.