مجموعة القواعد القانونية التى قررتها محكمة النقض والإبرام فى المواد الجنائية - وضعها محمود أحمد عمر باشكاتب محكمة النقض والإبرام
الجزء الثانى (عن المدة بين 6 مارس سنة 1930 وبين 31 أكتوبر سنة 1932) - صـ 469

جلسة الاثنين 14 مارس سنة 1932

تحت رياسة حضرة صاحب السعادة عبد العزيز فهمى باشا.

(333)
القضية رقم 66 سنة 2 القضائية

( أ ) نظام الحكومة المقرر فى القطر المصرى. معنى هذه العبارة.
(المادة 151 ع)
(ب) الحكومة. ماهيتها القانونية.
(جـ) إهانة. حسن النية. معناه.
(د) جرائم النشر. سلطة محكمة النقض فى تقديرها.
(المادة 229 تحقيق)
1 - إن عبارة "نظام الحكومة المقرر فى القطر المصرى" الواردة فى المادة 151 المعدّلة من قانون العقوبات كما تصدق لغة على نظام الحكم فى نوعه أى فى أساسه الإجمالى المقرر بالمادة الأولى من الدستور من أن حكومة مصر تكون ملكية وراثية نيابية تصدق لغة أيضا على هذا النظام فى صورته التفصيلية المقررة بباقى مواد الدستور.
2 - الحكومة (Gouvernement) فى ماهيتها القانونية هى السيادة فى مظهرها العملى (La souveraineté mise en oeuvre) أى السيادة فعالة مجرية ما تقتضيه طبيعتها من تحقيق سلطانها فى الناس، فكل الضوابط والأحكام الكلية التى تحدّد سير السيادة فى تحقيق سلطانها فى الناس هى التى يتكوّن منها فى مجموعها معنى الحكومة. وتلك الضوابط والأحكام متغيرة متقلبة على صور ووجوه شتى فكلما تحدّدت فى بلد على أى وجه من الوجوه وبأى كيفية من الكيفيات كانت الحكومة المقررة لذلك البلد هى هى ذلك الوجه المحدّد، وأطلق على ذلك الوجه أنه نظام الحكومة المقرر. والدساتير هى الوثائق الأساسية التى تتكفل ببيان ذلك النظام وتقريره، وهى لا غرض من وضعها إلا هذا البيان والتقرير، فكل ما ورد فيها ما عدا بيان السيادة من جهة مصدرها ومستقرها ومستودعها هو نظام الحكومة المقرر، حتى الحقوق المدنية العامة التى تقرر عادة فى أوائل الدساتير ليست على التحقيق إلا ضوابط تحدّد مدى السيادة وإلى أى حدّ يجب وقوف سلطانها.
3 - إن حسن النية الذى يتطلبه القانون فى جريمة الإهانة هو اعتقاد المتهم بصحة الوقائع التى ينسبها لغيره وأن يكون قصده مما يقترفه من ذلك مصلحة البلاد لا مجرّد التشهير.
4 - إن القضاء قد استقر على أن لمحكمة النقض والإبرام فى جرائم النشر حق تقدير مرامى العبارات التى يحاكم عليها الناشر لأنه وإن عدّ ذلك فى الجرائم الأخرى تدخلا فى الموضوع إلا أنه فى جرائم النشر وما شابهها يأتى تدخل محكمة النقض من ناحية أن لها بمقتضى القانون تعديل الخطأ فى التطبيق على الواقعة بحسب ما هى مثبتة فى الحكم.
الطعن المقدّم من النيابة العامة فى دعواها رقم 1990 سنة 1931 المقيدة بجدول المحكمة برقم 66 سنة 2 قضائية ضد حسن عبده خليل النحاس افندى.


الوقائع

اتهمت النيابة العامة المذكور بأنه فى يومى 15 و20 فبراير سنة 1931 بدائرة قسم الدرب الأحمر بمحافظة مصر: (أوّلا) حرض علنا على كراهية نظام الحكومة المقرر فى القطر المصرى وعلى الازدراء به بأن وزع على الجمهور نشرات مطبوعة ذكر فيها أن الحكومة استحدثت دستورا جديدا تأبى كرامة الناس طاعته واحترامه ولصق بعض هذه النشرات على الحائط بالشارع العمومى بالتحريض على مقاطعته. (ثانيا) لأنه فى الزمان والمكان السابقين أهان علنا إحدى الهيئات النظامية وهى هيئة الوزارة بأن نسب لها فى تلك النشرات المطبوعة والتى وزعها أنها قتلت الحريات واستباحت المحرّمات وأن عهدها عهد ظلم وطغيان وغدر. وطلبت من حضرة قاضى الإحالة إحالته على محكمة الجنايات لمحاكمته بالمواد 148 و151 معدّلة و160 من قانون العقوبات. وبتاريخ 20 أبريل سنة 1931 قرّر حضرته إحالته على محكمة الجنايات لمحاكمته بالمواد السالفة الذكر.
ومحكمة جنايات مصر بعد أن سمعت الدعوى قضت حضوريا بتاريخ 23 يوليه سنة 1931 عملا بالمادة 50 من قانون تشكيل محاكم الجنايات ببراءة المتهم مما أسند إليه والإفراج عنه فورا إن لم يكن محبوسا لسبب آخر.
فطعن حضرة صاحب العزة رئيس نيابة مصر على هذا الحكم بطريق النقض بالتوكيل عن سعادة النائب العام بتاريخ 29 يوليه سنة 1931 وقدّم حضرته تقريرا بالأسباب فى التاريخ المذكور.


المحكمة

بعد سماع المرافعة الشفوية والاطلاع على الأوراق والمداولة قانونا.
بما أن الطعن قد قدّم فى الميعاد وكذلك أسبابه فهو مقبول شكلا.
وبما أن الوجه الأوّل من وجهى الطعن المقدّمين من النيابة يدور حول التهمة الأولى المسندة للمتهم وهو يتلخص فى أن محكمة الجنايات أخطأت فى تأويل القانون إذ بنت حكمها ببراءة المتهم من تهمة التحريض علنا على كراهة نظام الحكومة المقرّر فى القطر المصرى وعلى الازدراء به على معنى خاطئ لعبارة نظام الحكومة إذ ذهبت فى فهم هذا المعنى إلى غير ما أراده الشارع وقطعت بأن المادة 151 من قانون العقوبات لم تعن فى الفقرة الأولى منها إلا نظام الحكم فى الدولة المصرية على ما هو مقرّر فى المادة الأولى من الدستور وهو أن حكومة الدولة ملكية وراثية وشكلها نيابى واستخلصت من ذلك التأويل أن المتهم لم يجن أية جناية لأنه لم يطعن على كون الدولة المصرية ملكية أو وراثية ولم يتناول شكلها النيابى بأى قدح - ذهبت محكمة الجنايات هذا المذهب فى تأويل معنى المادة 151 المتقدّم ذكرها مع أن الشارع إنما أراد بعبارة نظام الحكومة الواردة فى الفقرة الأولى من تلك المادة جميع النظم الأساسية للدولة المصرية كالوزارة ومجلس الشيوخ ومجلس النوّاب والقضاء والجيش، ومتى كان هذا هو غرض الشارع فان المادة 151 تنطبق على فعلة المتهم.
وبما أن موازنة الحجج التى استندت إليها محكمة الجنايات من ناحية مع الحجج التى تقدّمت بها النيابة فى طعنها من جهة أخرى يستدعى: (أوّلا) بيان الواقعة التى يحاكم من أجلها المتهم؛ (وثانيا) تفهم مراد الشارع من عبارة "نظام الحكم المقرر فى القطر المصرى" الواردة فى المادة 151 عقوبات.
وبما أن واقعة هذه الدعوى تتلخص فى أنه فى يوم 6 فبراير سنة 1931 علم بوليس قسم الدرب الأحمر أن المتهم يخطب المصلين فى الشئون السياسية داخل مسجد جامع الماردانى بشارع التبانة فاستحضره وسأله عما عزى إليه فقرر فى محضر البوليس أنه ذهب إلى مسجد الماردانى لصلاة الجمعة وبعد انتهاء الصلاة وقف قريبا من المنبر فى وسط المسجد وقال بصوت مرتفع نوعا ما يأتى: (محبة الوطن من الإيمان وإن خير ما تتقرّبون به إلى الله أن تؤدّوا عملا صالحا فى هذا الوقت العسير وإن الحكومة شارعة فى اعمال انتخاب فقاطعوا الانتخاب وإلا ضيعتم الحرّيات التى كفلها لكم دستور الأمة). ولما أحيل محضر ضبط الواقعة على النيابة أعادت سؤال المتهم فأصر على اعترافه بما صدر منه وقال إنه سبق له أن خطب فى مسجد الفكهانى وفى مسجد الأشراف فى الأسبوعين الماضيين بمثل ما خطب به فى مسجد الماردانى. بعد ذلك أخلت النيابة سبيل المتهم. وفى 13 فبراير سنة 1931 عثر بوليس الدرب الأحمر على نسخة من منشور مطبوع ملصقة بجدار فى شارع الفحامين بدائرة ذلك القسم عليها توقيع باسم المتهم حسن النحاس فعملت مذكرة بذلك. وفى يوم 20 فبراير سنة 1931 ضبط أحد رجال القسم نسختين من ذلك المنشور مع المتهم وقتما كان يوزعه على الجمهور أمام مسجد المؤيد بعد انتهاء صلاة الجمعة فبلغ الأمر للنيابة وسئل المتهم أمام أحد وكلائها فاعترف بأن المنشورين المضبوطين كانا معه وأنه قبل ذلك كان يصلى فى مسجد المؤيد ثم خطب فى المصلين ووزع عليهم نسخا من المنشور داخل المسجد ووزع الباقى خارجه وأقرّ بأنه هو الذى حرر المنشور المضبوط وطبعه على نفقته وتولى بنفسه توزيعه على الجمهور ورفض أن يدل على المطبعة التى طبعه فيها وقد أرفق المنشور بأوراق التحقيق فاذا عبارته كما يأتى:
منشور نمرة 1:
إلى أهالى الدرب الأحمر:
"اسألوا الله الرحمة مما أنتم فيه من ظلم وفقر ومعسرة وادعوه مخلصين أن يرفع" "عنكم أثقال عهد بان غدره واستفاضت منه الشكوى فان لم تدرككم رحمة الله" "فشر محيط وهلاك مبين".
"الوزارة الحاضرة قتلت الحرّيات واستباحت المحرّمات بعد أن وأدت" "الدستور واستحدثت دستورا جديدا تأبى كرامة الناس طاعته واحترامه ثم" "أشكلت عليها المسائل وأحاطت بها النكبات فاتخذت لها من سقط القوم حزبا" "مريضا بعد أن يئست من تأييد الأمة وعطفها".
"والوزارة تريد الآن أن تجرى انتخابا وأن تخلق نوّابا هم أولئكم الأنصار" "المرضى ولست أدرى بلوى أمعن فى حرب الأمة وأدخل فى ضرها من هذه" "الانتخابات التى إن نجحت تذهب بآمالكم وحرياتكم جميعا".
"هل تريدون أن يطول عهد هذا الحكم ويمتدّ بكم ظلمه وطغيانه؟ وهل" "ترضى كرامتكم أن يكون موضع الرأى منكم أولئكم المرضى من أنصار الحكومة" "والمحسوبين على حزبها؟ إن أردتم أن يباع جهادكم رخيصا فادخلوا الانتخابات".
"وإن أردتم الكرامة والعزة إن أردتم العدل والنظام والحرّية إن أردتم زوال" "هذه الوزارة وما تقترف إن أردتم خير الأمة ونصرها فقاطعوا الانتخابات فى جميع" "أدوارها ولا تعبأوا بنتائجها وحينئذ يدول حكم هذه الوزارة ويذهب سلطانها" "وتشرق على البلاد أنوار دستور الأمة وتعلو كلمتها ويكتب لها النصر المبين وإنى" "لأدعو الله يا قومى أن يهبكم السداد والحكمة وأن يجمع كلمتكم على ما فيه الخير" "واعلموا أن النصر قريب باذن الله". حسن النحاس.
"اقرأ هذا وأعطه لغيرك يقرأه 20 - 2 - 1931".
رأت النيابة أن ما فى المنشور من الحض على عدم طاعة الدستور هو تحريض علنى على كراهة نظام الحكومة المقرّر فى القطر المصرى وعلى الازدراء به، وما فيه من المطاعن فى الوزارة القائمة هو إهانة لتلك الوزارة فقدّمته لقاضى الإحالة الذى أحاله على محكمة الجنايات بالتهمتين المذكورتين لمحاكمته بمقتضى المواد 148 و151 معدّلة و160 من قانون العقوبات. فقضت المحكمة ببراءته وأثبتت فى حكمها الوقائع المتقدّمة إثباتا بعضه صريح وبعضه بالإِشارة إلى ما فى الأوراق.
وبما أن عبارة نظام الحكومة المقرر فى القطر المصرى الواردة فى المادة 151 معدّلة من قانون العقوبات كما تصدق لغة على نظام الحكم فى نوعه أى فى أساسه الإجمالى المقرّر بالمادة الأولى من الدستور من أن حكومة مصر تكون ملكية وراثية نيابية تصدق لغة أيضا على هذا النظام فى صورته التفصيلية المقررة بباقى مواد الدستور بدليل أن محكمة الجنايات نفسها قد عبرت عن الدستور برمته (أى بما فيه من التفصيلات) بأنه هو نظام الحكم وذلك فى قولها فى معرض بيان عدم اختصاص المحاكم بالفصل فى صحة الدستور ما يأتى: (أما الدستور نفسه باعتباره نظام الحكم المقرر فى البلاد فلا يوجد قانون أعلى منه يمكن الرجوع إليه لتقديره والحكم عليه بمقتضاه).
وبما أنه فوق هذا المفهوم اللغوى لتلك العبارة فان معنى الحكومة (Gonvernement) فى ماهيتها القانونية - كما قال الدفاع بحق نقلا عن علماء القانون - هى السيادة فى مظهرها العملى (La souveraineté mise en oeuvre) أى السيادة فعالة مُجرية ما تقتضيه طبيعتها من تحقيق سلطانها فى الناس؛ فكل الضوابط والأحكام الكلية التى تحدّد سير السيادة فى تحقيق سلطانها فى الناس هى التى يتكوّن منها فى مجموعها معنى الحكومة؛ وتلك الضوابط والأحكام متغيرة متقلبة على صور ووجوه شتى فكلما تحدّدت فى بلد على أى وجه من الوجوه وبأى كيفية من الكيفيات كانت الحكومة المقررة لذلك البلد هى هى ذلك الوجه المحدّد وأطلق على ذلك الوجه أنه نظام الحكومة المقرر. والدساتير هى الوثائق الأساسية التى تتكفل ببيان ذلك النظام وتقريره. وهى لا غرض من وضعها إلا هذا البيان والتقرير. فكل ما ورد فيها مما عدا بيان السيادة من جهة مصدرها ومستقرها ومستودعها هو نظام الحكومة المقرر؛ حتى الحقوق المدنية العامة التى تقرر عادة فى أوائل الدساتير ليست على التحقيق إلا ضوابط تحدّد مدى السيادة وإلى أى حدّ يجب وقوف سلطانها.
وبما أنه فوق المفهومين اللغوى والفقهى لتلك العبارة تجد هذه المحكمة أن الشارع إنما استعملها فى معناها الشامل لتفاصيل النظام لا لأسه النوعى فقط فقد جاء فى المذكرة التفسيرية التى شفعت القانون رقم 37 لسنة 1923 الذى عدّلت به المادة 151 عقوبات ما يأتى: "إن النص القديم كان يمكن تفسيره تفسيرا ضيقا واعتبار أنه لا يشير إلا إلى الحكومة أى الوزارة القائمة وقتئذ. على أن كلمة الحكومة يجب إعطاؤها معنى واسعا وهى تشمل كل النظم الأساسية للدولة: الوزارة ومجلس النوّاب ومجلس الشيوخ والقضاء والجيش". وجاء أيضا فى تلك المذكرة بعد ما تقدّم العبارة الآتية: "ومن الواضح أن لكل إنسان الحرّية فى نقد النظم الأساسية للدولة بشرط أن يكون الغرض الحقيقى لهذا النقد الوصول إلى إصلاح النظم المذكورة بالطرق القانونية لكن إذا كان ينشأ عن النقد التحريض على كراهة نظام الحكومة والازدراء به مما يترتب عليه وضع عثرات تعوق الحكومة عن إنجاز الأعمال المنوطة بها فى اختصاصاتها الأساسية وذلك بالقاء الاضطراب فى النفوس وبتحريض الشعب على بغض الحكومة والازدراء بها - فحينئذ يكون قد وقع تجاوز لحدود النقد المسموح به وتجب العقوبة إذا أريد الاحتفاظ بالهيبة والسلطة اللتين لا غنى عنهما للحكومة ولنظم الدولة الأساسية للقيام بالأعمال المنوط بها" وواضح من هذا البيان ما يؤكد فكر الشارع الذى سبقت الإشارة إليه تمام التأكيد.
وإذن فالمعنى اللغوى والعرف الفقهى العام وعرف الشارع المصرى الخاص كل أولئك متضافرة على وجوب صرف معنى عبارة "نظام الحكومة المقرر فى القطر المصرى" الواردة بالمادة 151 إلى ما يشمل تفاصيل النظام الحكومى بحسب ما هى عليه فى الدستور القائم الذى هو الموطن الوحيد لتقريرها.
وبما أن محكمة الجنايات قرّرت أن عبارة نظام الحكومة المقرّر فى البلاد الواردة بالمادة المذكورة لا معنى لها إلا الأساس النوعى لذلك النظام وهو الوارد بالمادة الأولى من الدستور وبالتزامها ذلك التأويل الضيق تخلصت إلى القول بأن المتهم هو من أشدّ أنصار الحياة النيابية وأنه لم يقصد قط محاربة النظام النيابى أو هدمه وإنما هو يرى أن الدستور القديم كان يحقق الحياة النيابية بشكل أكمل وأن الدستور الجديد قد انتقصها فهو يريد أن يعدل بهذا إلى ذاك وأن هذه المفاضلة لا تعتبر تحريضا على كراهة نظام الحكم المقرر فى البلاد وهو الحكم النيابى.
وبما أن ما جاءت به المحكمة من ذلك التفسير وما رتبته عليه من النتيجة فى الدعوى لا يستسيغه المدلولان اللغوى والفقهى لعبارة نظام الحكومة المقرر على ما تقدّم بيانه وهو فى ذاته مخالف لمراد الشارع المصرى المدلول عليه بالمذكرة التفسيرية التى هى فى الواقع مظهر الغرض ولسان المشرع وإليها مرد الأمر فى هذا الصدد. بل الحق أن أية صورة من صور الحكم النيابى يقرّرها الدستور بعدت أو قربت من الكمال النوعى فهى نظام الحكومة المقرر وتدخل تحت حماية المادة 151 عقوبات.
وبما أن استناد محكمة الجنايات فى تفسيرها إلى المادة 78 من قانون العقوبات غير مفهوم، إذ تلك المادة إذا كانت تحمى شكل الحكومة ونظام توارث العرش من أن يقلبهما أحد بالقوّة أو يغير فيهما شيئا بالقوّة فانها أيضا تحمى الدستور من أن يقلبه أحد بالقوّة أو يغير شيئا منه بالقوّة فهى تحمى الدستور فى كليته وفى أجزائه. وإذا كانت المادة 151 مقيسة على المادة 78 كما يفهم من قول محكمة الجنايات نفسها وأنها تحمى من التحريض على كراهة ما تحميه المادة 78 من أن يقلب بالقوّة كانت النتيجة - كما هو الحق الواقع - أن المادة 151 تحمى أى جزء من أجزاء الدستور منظم لأمر من أمور الحكم قل أو جل وكان استناد محكمة الجنايات غير مفهوم حقيقة لأنه مؤد إلى التفسير الواسع المخالف لتفسيرها.
وبما أن الحواشى التى جاء بها الحكم المطعون فيه تأييدا لما تخلص إليه من أن المتهم لم يقصد محاربة الحياة النيابية أو هدمها وإنما يبغى استكمالها بالرجوع إلى الدستور القديم - هذه الحواشى سواء أكانت من مقتبسات خطبة العرش أو من أقوال رئيس الحكومة فى مجلس النوّاب بشأن يمين جلالة الملك أو أقواله فى مجلس الشيوخ فى الرد على سؤال خاص بخطبة العرش وسواء أكانت مفيدة أن الدستور الحالى لم يغير شيئا من أنظمة الحكم أم كانت - كما هو الواقع - صريحة فى أن هناك خلافات بين هذا الدستور والدستور القديم تنصب على بعض القواعد والأنظمة وأنه أريد بها الانسجام والتوازن بين السلطات - هذه الحواشى جميعها لا قيمة لها فى الدعوى لأن المعول عليه إنما هو نصوص الدستور نفسه لا ما يكون ورد بخطبة العرش أو بالجدل السياسى الذى يلقى بمجلسى البرلمان.
وبما أن المقارنة بين الدستورين القديم والجديد تدل على أن هناك تعديلا قد حصل وأن هذا التعديل الذى ينصب على قواعد الحكم وأنظمته - ضئيلا كان فى ذاته أو غير ضئيل - من شأنه على كل حال أن يجعل لتلك القواعد والأنظمة فى الدستور الجديد صورة مختلفة عن صورتها فى الدستور القديم. وسواء اعترفت الحكومة بذلك التعديل فى جدلها السياسى أو لم تعترف فان ذلك الجدل لا يصح ركون القضاء إليه بل معوله الوحيد يجب - كما تقدّم - أن يكون الواقع فى وثيقة الدستور.
وبما أن الطعن فى الدستور من جهة تلك التعديلات والتحريض على عدم طاعته هو إذن طعن على نظام الحكم فى صورته التى قررها ذلك الدستور وتحريض على كراهته.
وبما أن الدفاع قد ذهب الى أن الدستور الحالى لم ينفذ إلا من تاريخ انعقاد البرلمان وأنه لم يكن قائما فى الفترة التى مرت بين صدوره وبين ذلك الانعقاد فأى طعن عليه فى هذه الفترة ليس فيه جريمة.
وبما أن هذا المذهب منقوض. فقد جاء فى المادة السابعة من الأمر الملكى رقم 70 لسنة 1930 الذى صدر به الدستور الجديد أن وزراء الدولة مكلفون بتنفيذه هو والدستور فالدستور إذن نافذ من وقت صدوره ونشره. وقد أخذ فعلا فى تنفيذه بوضع قانون الانتخاب المذكور فى ديباجته أنه مسنون بناء على الدستور أى الدستور الجديد. ولكن لما لم يكن فى الاستطاعة أن يتكوّن مجلسا البرلمان فى الحال لاستحالة ذلك ماديا قبل إجراء الانتخابات فعلا فقد نص فى المادة الثالثة من ذلك الأمر الملكى على ما يفيد أن الدستور نافذ ما عدا شئون السلطة التشريعية التى احتجزت لتلك الاستحالة المادية وجعلت مؤقتا فى يد السلطة التنفيذية ريثما ينعقد البرلمان.
وبغض النظر عن هذا فان الدستور من يوم نشره قد أصبح هو النظام الأصلى المقرّر للحكم فى البلاد ومسألة تنفيذه لا شأن لها فى وجوب احترامه وطاعته.
وبما أن ما تقدّم كاف فى إفادة أن ما نسب إلى المتهم من العبارات الواردة فى المنشور والثابتة فى الحكم المطعون فيه يعتبر يقينا تحريضا على كراهة نظام الحكومة المقرر فى القطر المصرى وعلى الازدراء به مما يقع تحت نص الفقرة الأولى من المادة 151 معدّلة من قانون العقوبات لو وقع علنا. ولا محل بعده لتعقب الدفاع فى مناحيه واستنتاجاته فان جميعها لا عبرة به أمام ثبوت الحقيقة القانونية التى رأتها هذه المحكمة. وإذن يكون الوجه الأول من وجهى الطعن مقبولا.
وبما أن المتهم قد اعترف أمام محكمة الموضوع بالوقائع المكوّنة لهذه الجريمة وهى إذاعة نشرات مطبوعة ذكر فيها أن الحكومة استحدثت دستورا جديدا تأبى كرامة الناس طاعته واحترامه ولصق بعض هذه المنشورات على الحائط العمومى وقد أثبت الحكم المطعون فيه كل هذا، فلمحكمة النقض والإبرام أن توقع فى هذه الحالة العقوبة التى يقتضيها تطبيق القانون وفقا لحكم المادتين 229 فقرة ثانية و232 من قانون تحقيق الجنايات.
وبما أن الوجه الثانى من تقرير الطعن يتلخص فى أن محكمة الجنايات برأت المتهم من تهمة الجنحة المسندة إليه على أساس أن العبارات الصادرة منه منصبة على نقد أعمال الحكومة وسياستها وليس فيها أى تعريض بشخص فرد منها وأن الوقائع المسندة إلى الحكومة لم تكن محل نزاع فى الدعوى فقد قررها المتهم فى التحقيق وأكدها الدفاع بالجلسة وقدّم لإثباتها قصاصات من الجرائد بنشر أخبارها فى حينها والنيابة لم تنكرها فهى إذن مسلمة بها وأن المتهم لم يفتر وكان سليم النية فلا يكون ما صدر منه معاقبا عليه - استندت محكمة الجنايات على هذا الأساس فجاء استنادها خطأ فى تأويل القانون تخلله إخلال بحقوق الدفاع. أما الخطأ فبيانه أن تهمة الجنحة المسندة للمتهم هى أنه أهان علنا إحدى الهيئات النظامية وهى هيئة الوزارة بأن نسب إليها فى نشرات مطبوعة قد وزعها أنها قتلت الحرّيات واستباحت المحرّمات وأن عهدها عهد ظلم وطغيان وغدر. وقد سيقت هذه العبارات فى أسلوب عام من السب والإهانة لا يجوز معه للمتهم ولا للمحكمة التذرّع بامكان التدليل على صحة ما قيل باختيار واقعة واحدة يثبتها المتهم فان هذا لا يرفع صفة التعميم والإبهام الذى يقصد به أن يقوم فى الأذهان ما هو أشد مما قيل فعلا وأروع أثرا. ثم إن الإهانة والسب إن جاز إثباتهما فان ذلك لا يكون إذا صدرا بعبارات عامة بل إن محله أن تكون العبارة التى استعملت معينة إلى حدّ يقرب من القذف. وقد أخطأت المحكمة أيضا فى تفهم ركن حسن النية فى جريمة الإهانة إذ دللت عليه بأن المتهم تملكته عقيدة سياسية وأن كل ما صدر منه إنما كان بدافع هذه العقيدة ودفاعا عنها مع أن حسن النية الذى يتطلبه القانون هو اعتقاد المتهم بصحة الوقائع التى ينسبها لغيره وأن يكون قصده مصلحة البلاد لا مجرّد التشهير.
وكذلك أخطأت فى تقدير مرامى العبارات التى صدرت من المتهم فان ألفاظها ومنحاها لا يدل على أنها مجرّد نقد يصح التسامح فيه بل هى ألفاظ سب وإهانة.
أما إخلال المحكمة بحق الدفاع فان مظهره اعتبارها قصاصات الجرائد وأقوال المتهم ولسان دفاعه دليلا قانونيا على صحة الوقائع المسندة للوزارة ثم تأويلها سكوت النيابة عن نفى ما قرره المتهم عن هذه الوقائع بأنه تسليم منها بصحتها مع أنه كان يجب على المحكمة إذا ما رأت أن تثير الإثبات وتأمر به أن تطالب كل فريق بأسانيده فى هذا الشأن.
وبما أن الفقرات التى حواها هذا الوجه تتركز جميعا فى أن خطأ محكمة الجنايات فى تبرئتها المتهم من تهمة إهانة هيئة الوزارة علنا يرجع إلى نقطتين أخذت فيهما برأى غير صحيح: الأولى أنها أوّلت مرامى المتهم فيما كتب فى حق هيئة الوزارة بأنها نقد مباح يصح التسامح فيه واستخلصت من ذلك حسن نيته فيما فعل. والثانية أنها جعلت للعبارات التى صدرت من المتهم مردّا من الوقائع وأن هذه الوقائع يصح قانونا للمتهم أن يثبتها وأخيرا اعتبرت سكوت النيابة عن نفيها دليلا قانونيا على ثبوتها.
وبما أن العبارات الواردة فى منشور المتهم والتى بنت عليها النيابة التهمة هى عبارات فى غاية الإقذاع وقد جاءت بأسلوب عام لا تبرز فيه واقعة معينة بالذات يمكن القول بأن المتهم كان ينقدها، ومن أثرها أن تصوّر فى خيال القارئ أفدح المكاره وأزرى الصفات التى يمكن أن تسند إلى هيئة الحكم فى البلاد، وصيغة التعميم هذه هى تشهير صريح لا يقبل فيه القول بحسن النية. كما أن هذا التعميم لا ينقلب إلى تخصيص بوقائع معينة جائز إثباتها لمجرّد ما ورد على لسان المتهم فيما بعد عندما تولت النيابة التحقيق معه لأن أقواله عندئذ - حقة كانت أو باطلة - إنما كانت على سبيل ضرب الأمثال وهى لا تغنى شيئا فيما كان لفعلته من الأثر فى أذهان الجمهور الذى قرأ المنشور خاليا من التخصيص والتعيين. ولا يسوغ الاعتراض فى هذا الصدد بأن واقعة استحداث الدستور الجديد هى واقعة معينة واردة فى صلب المنشور وأنها تجيز رمى الوزارة بما رماها به المتهم من استباحة المحرّمات ومن الظلم والطغيان والغدر - لا يسوغ ذلك لأن قيام هذا الدستور بالفعل ووجوب طاعته واحترامه وعقاب من يحاول التحريض على كراهته كل ذلك يجعل الهيئة التى استصدرته بمنجى من كل تعريض بكرامتها ويجعل من يهينها لهذا السبب مستحقا للعقاب وإلا اضطربت الأعمال العامة واختل النظام. ولا محل هنا أيضا للقول بسلامة النية أو بسوئها ما دام الموضوع طعنا وتشهيرا فيما يعصم فيه القانون المجنى عليه من كل طعن وتجريح.
وبما أن القضاء قد استقر على أن لمحكمة النقض والإبرام فى جرائم النشر حق تقدير مرامى العبارات التى يحاكم عليها الناشر لأنه وإن عدّ ذلك فى الجرائم الأخرى تدخلا فى الموضوع إلا أنه فى جرائم النشر وما شابهها يأتى تدخل محكمة النقض من ناحية أن لها بمقتضى القانون تعديل الخطأ فى التطبيق على الواقعة بحسب ما هى مثبتة فى الحكم. وما دامت العبارات المنشورة هى هى بعينها الواقعة الثابتة فى الحكم صح لمحكمة النقض تقدير علاقتها بالقانون من حيث وجود جريمة فيها أو عدم وجودها وذلك لا يكون إلا بتبين مناحيها واستظهار مراميها.
وبما أنه متى تقرّر - كما تقدّم - أن العبارات التى نشرها المتهم هى تشهير بهيئة الوزارة وإهانة لها وليس فيها ما يسيغ قبول إثبات صحة الوقائع التى ساقها فيما بعد تبريرا لذينك التشهير والإهانة - متى تقرّر ذلك وجب تطبيق المادة 160 القديمة من قانون العقوبات وصرف النظر عن بحث قيمة الطريقة التى اتخذتها المحكمة فى إثبات الوقائع إذ لا محل لذلك مع انتفاء جواز الإثبات.
وبما أن الجريمتين اللتين ارتكبهما المتهم وقعتا لغرض واحد وهما مرتبطتان الواحدة بالأخرى بحيث لا تقبلان التجزئة فيتعين توقيع عقوبة أشدّهما وهى عقوبة الجناية تطبيقا للفقرة الثانية من المادة 32 عقوبات.
وبما أن ما اجترحه المتهم لم يسبق أن عرض فى ساحة القضاء واستبانت خطورته وتكشف وجه الرأى فيه وهذا مما يدعو المحكمة إلى الرحمة فى الجزء لاسيما أن المتهم شاب يلوح أن قد غمرته غياهب السياسة فأفسدت عليه كياسة التصرف وباعدت بينه وبين الحكمة واللائق بالسداد ولذلك فانها تطبق فى شأنه المادة 17 معدّلة من قانون العقوبات وكذلك المادة 52 معدّلة من ذلك القانون مع إنذاره بما تقضى به المادة 54 عقوبات.