مجموعة القواعد القانونية التى قررتها محكمة النقض والإبرام فى المواد الجنائية - وضعها محمود أحمد عمر باشكاتب محكمة النقض والإبرام
الجزء الثانى (عن المدة بين 6 مارس سنة 1930 وبين 31 أكتوبر سنة 1932) - صـ 547

جلسة الاثنين 16 مايو سنة 1932

تحت رياسة حضرة صاحب السعادة عبد العزيز فهمى باشا.

(351)
القضية رقم 1691 سنة 2 القضائية

( أ ) نيابة عمومية. استقلالها عن السلطة القضائية. اشتمال الحكم على عبارات ماسة بها. شطبها.
(ب) محكمة الجنايات. قاضى الإحالة. القبض على متهم أحاله غيابيا قاضى الإحالة على محكمة الجنايات. بطلان الإجراءات الغيابية. وجوب تقديم المتهم إلى قاضى الإحالة. تنازله عن هذه المرحلة. لا يجوز.
(المواد 9 و12 (ب) تشكيل و224 معدّلة تحقيق)
1 - النيابة سلطة مستقلة لها بحكم وظيفتها وأمانة الدعوى العمومية التى فى عهدتها حرمة، فليس للمحاكم عليها أية سلطة تبيح لها لومها أو تعييبها مباشرة بسبب طريقة سيرها فى أداء وظيفتها، بل إن كان القضاء يرى عليها شبهة فى هذا السبيل فليس له إلا أن يتجه فى ذلك إلى المشرف مباشرة على رجال النيابة وهو النائب العام أو إلى الرئيس الأعلى للنيابة وهو وزير الحقانية على أن يكون هذا التوجه بصفة سرية رعاية للحرمة الواجبة لها من أن لا يغض من كرامتها أمام الجمهور. فليس لمحكمة الجنايات أن ترمى النيابة فى حكمها بأنها "أسرفت فى الاتهام" وأنها "أسرفت أيضا فى حشد التهم وكيلها للمتهمين جزافا".
2 - المادة 12 (ب) من قانون تشكيل محاكم الجنايات والمادة 224 المعدّلة من قانون تحقيق الجنايات صريحتان فى أنه إذا صدر أمر باحالة متهم على محكمة الجنايات ولم يكن سبق حضوره أمام قاضى الإحالة وقبض عليه قبل الحكم فى قضية من محكمة الجنايات فيكون الإجراء كما لو كانت القضية لم تقدّم لقاضى الإحالة وأن من يحكم عليه غيابيا من محكمة الجنايات ولم يكن سبق حضوره أمام قاضى الإحالة يكون الإجراء بشأنه كما لو كانت القضية لم تقدّم قبل إلى هذا القاضى. وهذا النص فى المادتين لا يدع مجالا للشك فى أن ضبط المتهم الذى أحاله غيابيا قاضى الإحالة إلى محكمة الجنايات يبطل كل الإجراءات التى حصلت فى حقه ابتداء من قرار الإحالة الغيابى وتصبح هذه الإجراءات كأنها فى حكم العدم. فاذا نظرت محكمة الجنايات موضوع القضية وقضت فيها معتمدة على تنازل المتهم عن هذه المرحلة من الإجراءات بحجة أن نظام قاضى الإحالة وضع لمصلحة المتهم وحده فله أن يتنازل عنه كان هذا المتهم كأنه محال من غير أمر بالإحالة إذ الأمر الصادر فى غيبته لا وجود قانونيا له. وهذا لا يقرّه القانون إذ المادة التاسعة وما بعدها من قانون تشكيل محاكم الجنايات تقضى بأن كل قضية جنائية حققتها النيابة ينظرها قاضى الإحالة قبل تقديمها لمحكمة الجنايات ويصدر فيها أمرا باحالتها عليها متى وجد مسوغا لذلك. فما لم يتم هذا الإجراء ويبق قائما فلا تعتبر محكمة الجنايات متصلة بالدعوى اتصالا قانونيا.
ومثل ذلك المتهم الذى قدّم مباشرة إلى محكمة الجنايات إذا قضت تلك المحكمة بتبرئته لا يجوز له أن يدفع بأنه اكتسب بهذه البراءة حقا لأن الحق لا يعتبر مكتسبا له حرمته إلا إذا كان مملك هذا الحق ذا أهلية لتمليكه، ومحكمة الجنايات لم تتصل بالدعوى اتصالا قانونيا يجعلها فى حل من نظرها.
الطعن المقدّم من النيابة العامة فى دعواها رقم 735 سنة 1932 المقيدة بجدول المحكمة رقم 1691 سنة 2 قضائية ضد على حسين محمد وآخرين ومن فهيم حنا وآخرين فى قضية النيابة العامة المذكورة.


الوقائع

اتهمت النيابة العمومية فهيم حنا وعلى حسين محمد وعبد الكريم محمد مع آخرين بأنهم فى أيام 9 و10 و11 و13 مايو سنة 1931 بدائرة قسم بولاق بمحافظة مصر: (أوّلا) دبروا واشتركوا فى تجمهر مؤلف من أكثر من خمسة أشخاص كان الغرض منه التأثير على السلطات فى أعمالها وارتكاب جريمتى التظاهر والحض والإضراب الآتى بيانهما. (ثانيا) نظموا ودعوا إلى مظاهرات سياسية لم يخطر عنها. (ثالثا) حرضوا عمال العنابر وهم من الأجراء على التوقف عن العمل بدون مراعاة القيود القانونية. وبأنهم وحسين كامل وعبد المنعم حسن الجندى مع آخرين فى يوم 14 مايو سنة 1931 بدائرة قسمى بولاق وشبرا بمحافظة مصر: (أوّلا) اشتركوا رغم تحذير البوليس فى مظاهرة سياسية لم يخطر عنها وعصوا الأمر الصادر لهم بالتفرقة. (ثانيا) اشتركوا فى تجمهر مؤلف من أكثر من خمسة أشخاص بحالة تجعل السلم العام فى خطر وقد أمرهم رجال السلطة بالتفرقة فرفضوا إطاعتهم ولم يعملوا بأوامرهم وكان غرضهم من هذا التجمهر ارتكاب جريمة التظاهر والتأثير على السلطات فى أعمالها واستعملوا القوّة والعنف أثناء تجمهرهم مع علمهم بالغرض المقصود منه وكانوا يحملون طوبا وأحجارا وحديدا "قضبانا" وقد وقعت الجرائم الآتى بيانها بقصد تنفيذ الغرض المذكور وهى: (1) خرّبوا عمدا وأتلفوا مع آخرين مجهولين بعض مبانى العنابر المملوكة للحكومة بأن حطموا أخشاب وزجاج وأقفال بعض الأبواب والنوافذ وأتلفوا أيضا سيمافورات السكة الحديد المبينة بمحاضر المعاينات. (2) خرّبوا وقت هياجهم الخطوط التليفونية والتلغرافية المبينة بالمحضر وجعلوها غير صالحة للاستعمال وذلك بأن قطعوا الأسلاك وأتلفوا القوائم الرافعة لها وكسروا آلات النقطة المركزية والعدد التليفونية وقد ترتب على ذلك انقطاع المخابرات بين ذوى السلطات العمومية وتعطيل خطوط تليفون بعض المشتركين. (3) أتلفوا جانبا من مصابيح الإِضاءة فى الشوارع والميادين العمومية المملوكة لشركة النور المبينة بالمحاضر مما تسبب عنه ضرر مالى يزيد قيمته عن العشرة جنيهات مصرية وذلك بقصد الإساءة. (4) قتلوا عمدا العسكرى حسين محمد عمرو بأن طعنوه بآلة حادة فى صدره قاصدين قتله فأحدثوا به الإصابات المبينة بالصفة التشريحية وتسبب عنها وفاته. (5) تعدّوا على رجال القوات من البوليس والجيش المبينة أسماؤهم بالمحاضر وقاوموهم بالقوّة والعنف أثناء تأديتهم لوظائفهم وهى المحافظة على النظام والأمن وتفريق المظاهرات بأن قذفوهم بالطوب والأحجار وقطع الحديد فأحدثوا بعدد منهم الإصابات المبينة بالكشوف الطبية والمحاضر. وبأن عبد الجواد مرسى وآخرين فى يوم 14 مايو سنة 1931 بدائرة قسم بولاق بمحافظة مصر: (أوّلا) اشتركوا رغم تحذير البوليس فى مظاهرة سياسية لم يخطر عنها وعصوا الأمر الصادر لهم بالتفرقة. (ثانيا) اشتركوا فى تجمهر مؤلف من أكثر من خمسة أشخاص بحالة تجعل السلم العام فى خطر وقد أمرهم رجال السلطة بالتفرقة فرفضوا إطاعتهم ولم يعملوا بأوامرهم وكان غرضهم من هذا التجمهر ارتكاب جريمة التظاهر السالف ذكرها مع علمهم بالغرض المقصود منه وكانوا يحملون طوبا وأحجارا وقد وقعت الجرائم الآتى بيانها بقصد تنفيذ الغرض المذكور وهى: (1) وضعوا النار عمدا فى بعض القاطرات والعربات المبينة بمحاضر المعاينات والمملوكة لشركة الترام وأتلفوا عمدا أخشاب وزجاج البعض الآخر كما أتلفوا بعض سيارات ثورنى كروفت وذلك حالة كونهم عصبة وبالقوّة الإجبارية. (2) نهبوا بعض منقولات من حانة لنقولا لواريس وشريكه وأدوات من متعلقات مصلحة التليفونات وأتلفوا عمدا جانبا من الأمتعة والمنقولات بمنزل الشيخ على عمر على والشيخ محمد إسماعيل حماده وقد وقع ذلك حالة كونهم عصبة وبالقوّة الإجبارية. (3) أتلفوا عمدا جانبا من مصابيح الإضاءة فى الشوارع والميادين العمومية المملوكة لشركة النور بأن حطموا زجاجها وانتزعوا قوائمها كما أتلفوا أيضا واجهات بعض المحلات التجارية مما تسبب عنه ضرر مالى تزيد قيمته عن عشرة جنيهات مصرية وذلك بقصد الإساءة. (4) أتلفوا عمدا عددا من الأشجار المغروسة فى الشوارع والميادين العمومية بأن قطعوا تلك الأشجار وحطموا سياجها. (5) تعدّوا على رجال القوّة المبينة أسماؤهم بالمحاضر بالقوّة والعنف أثناء تأديتهم لوظائفهم وهى المحافظة على النظام والأمن العام بأن قذفوهم بالطوب والأحجار فأحدثوا بعدد منهم الإصابات المبينة بالكشوف الطبية. (6) أحدثوا عمدا جروحا وإصابات مبينة بالكشوف الطبية بمحمود عنانى زيتون ولبيبة حبيب سعيد ونقولا لواريس وتركليس سياليس أعجزتهم عن أعمالهم الشخصية مدّة تقل عن العشرين يوما، وذلك بأن قذفوهم بالطوب والأحجار حالة كونهم عصبة وتجمهرا مؤلفا من أكثر من خمسة أشخاص توافقوا على التعدّى والإيذاء فأحضروا معهم الآلات السالفة الذكر لاستعمالها فى الاعتداء - وطلبت من حضرة قاضى الإحالة إحالتهم إلى محكمة جنايات مصر لمعاقبة فهيم حنا وعلى حسين محمد وعبد الكريم محمد وحسين كامل وعبد المنعم حسن الجندى بالمواد 1 و2 فقرة أولى وثانية و3 فقرة أولى وثانية و4 من القانون رقم 10 سنة 1914 الخاص بالتجمهر والمواد 1 و2 و3 و4 و5 و7 و8 و9 و11 فقرة أولى وثانية من القانون رقم 14 سنة 1923 الخاص بالمظاهرات والاجتماعات العامة والمواد 327 فقرة ثالثة مكررة و140 و143 و144 و316 فقرة ثانية و198 فقرة أولى و118 و119 من قانون العقوبات، ومعاقبة عبد الجوّاد مرسى بالمواد 1 و2 فقرة أولى وثانية من القانون رقم 10 سنة 1914 الخاص بالتجمهر والمواد 2 و3 و4 و5 و7 و8 و9 و11 فقرة أولى وثانية من القانون رقم 14 سنة 1923 الخاص بالمظاهرات والاجتماعات العامة والمواد 220 و320 و316 فقرة ثانية و140 و118 و119 و206 و207 من قانون العقوبات. فقرّر حضرته فى 18 أكتوبر سنة 1931 بإحالة هؤلاء المتهمين إلى محكمة جنايات مصر غيابيا بالنسبة إلى على حسين محمد وحسين كامل وعبد المنعم حسن الجندى وعبد الجوّاد مرسى وحضوريا للباقين لمحاكمتهم بالمواد السابق ذكرها.
وبإحدى جلسات المحاكمة "أمام محكمة جنايات مصر" طلبت النيابة العمومية التنازل مؤقتا عن محاكمة المتهمين الذين أحالهم حضرة قاضى الإحالة غيابيا لأن المادة 12 من قانون تشكيل محاكم الجنايات والمادة 214 من قانون تحقيق الجنايات تنصان على ضرورة تقديمهم إذا حضروا إلى قاضى الإحالة فعارض الدفاع فى ذلك وطلب نظر الدعوى للمتهمين جميعا وقرّر بتنازله عن مرور المتهمين الذين أبدت النيابة هذا الطلب بشأنهم على قاضى الإحالة، فقضت المحكمة برفض طلب النيابة العامة وبعد أن سمعت الدعوى رأت أن تهمة فهيم حنا وعلى حسين وعبد الكريم محمد هى: (أوّلا) أنهم وآخرين من عمال العنابر (بقسم بولاق بمحافظة مصر) توقفوا عن عملهم فى بعض الأوقات من أيام 9 و10 و11 و13 مايو سنة 1931 بكيفية يتعطل معها سير العمل فى مصلحة السكة الحديد التى يعملون فى ورشها بدون أن يخطروا المحافظة بذلك. (ثانيا) أنهم وحسين كامل فى يوم 14 مايو سنة 1931 بالعنابر اشتركوا رغم تحذير البوليس فى مظاهرة سياسية لم يخطر عنها وفى تجمهر مؤلف من بضعة آلاف من شأنه أن يجعل السلم العام فى خطر وكان الغرض منه ارتكاب جريمة التظاهر والتأثير على السلطات فى أعمالها مع علمهم بهذا الغرض، واستعمل المتجمهرون القوّة والعنف، وارتكب بعضهم بقصد تنفيذ هذا الغرض جريمة إتلاف وتخريب بعض مبانى العنابر المملوكة للحكومة بأن حطموا أخشاب وزجاج وأقفال بعض الأبواب والشبابيك وإتلاف بعض سيمافورات السكة الحديد وجريمة إتلاف بعض الخطوط التلغرافية والتليفونية (فى وقت هياج) وجعلها غير صالحة للاستعمال بأن قطعوا الأسلاك وأتلفوا القوائم التى تحملها وكسروا آلات النقط المركزية والعدد التليفونية وترتب على ذلك انقطاع المخابرات بين ذوى السلطات العمومية والأفراد وجريمة التعدّى على رجال الجيش والبوليس ومقاومتهم بالقوّة والعنف أثناء تأدية وظيفتهم (وهى المحافظة على النظام العام والأمن) بأن قذفوهم بالطوب والأحجار وقطع الحديد فأصابوا بعضهم بالجروح المبينة بالكشوف الطبية وحكمت حضوريا فى أوّل فبراير سنة 1932 عملا بالفقرة الأولى من المادة 327 وبالمواد 140 و143 و144 و118 و119 من قانون العقوبات وبالمواد 1 و2 و3 فقرة أولى وثانية من القانون رقم 10 سنة 1914 وبالمادة 32 من قانون العقوبات والمادة 50 من قانون تشكيل محاكم الجنايات: (أوّلا) بمعاقبة فهيم حنا وعبد الكريم محمد بالحبس مع الشغل مدّة سنتين وبمعاقبة على حسين محمد بالحبس مع الشغل مدّة سنة وبمعاقبة على حسين كامل بالحبس مع الشغل مدّة ثلاثة شهور. (وثانيا) ببراءتهم من باقى التهم المسندة إليهم. (وثالثا) ببراءة باقى المتهمين من جميع ما أسند إليهم.
فطعن فى هذا الحكم بطريق النقض على حسين محمد فى 11 فبراير سنة 1932 وفهيم حنا يوسف وعبد الكريم محمد فى 18 فبراير سنة 1932 ولم يقدّموا أسبابا لطعنهم.
وطعن فيه أيضا حضرة رئيس نيابة مصر بالنسبة لكل من على حسين محمد وحسين كامل وعبد المنعم حسن الجندى وعبد الجواد مرسى الذين لم يحضروا لدى قاضى الإحالة فى 18 فبراير سنة 1932 وقدّم تقريرا بالأسباب فى ذات التاريخ.


المحكمة

بعد سماع المرافعة الشفوية والاطلاع على الأوراق والمداولة قانونا.
بما أن الطعن المرفوع من فهيم حنا وعلى حسين محمد وعبد الكريم محمد لم تقدّم عنه أسباب فهو غير مقبول شكلا.
وبما أن الطعن المرفوع من النيابة العمومية قد قدّم فى الميعاد وكذلك أسبابه فهو مقبول شكلا.
وبما أن الوجه الأوّل من هذا الطعن يتلخص فى أن محكمة الجنايات قد تجاوزت الحدّ الذى رسمه القانون لاستقلال النيابة العمومية عن المحاكم إذ قد رمتها فى حكمها بأنها أسرفت فى الاتهام وأنها كانت تكيل للمتهمين التهم جزافا. وقد طلبت النيابة فى هذا الوجه حذف العبارات التى جاءت مظهرا لهذا التجوّز.
وبما أنه قد تبين من مراجعة الحكم المطعون فيه أن محكمة الجنايات عند سردها وقائع الدعوى قد نقدت فيما يتعلق بكثير من المتهمين أدلة الإثبات التى أدلت بها النيابة العمومية وعلقت على ذلك بأنه إسراف من النيابة فى الاتهام ثم استمرت إلى أن قالت عن عمل النيابة إنه حشد وكيل للتهم جزافا.
وبما أنه بقطع النظر عن العقيدة التى تكوّنت لدى المحكمة فى قيمة أدلة الاتهام المقدّمة لها وعن أن تلك العقيدة واجبة الاحترام فان أسلوب الحكم فى إيراد هذا المعنى قد انزلق إلى تحيف مركز النيابة العمومية وهى سلطة مستقلة لها بحكم وظيفتها وأمانة الدعوى العمومية التى فى عهدتها حرمة تنبو عن جواز مسها بالتعريض الذى وجهه إليها الحكم. ولقد جرى قضاء هذه المحكمة بما هو مقرّر من أنه ليس للمحاكم على النيابة أية سلطة تبيح لها لومها أو تعييبها مباشرة بسبب طريقة سيرها فى أداء وظيفتها وأنه إن كان القضاء يرى عليها شبهة فى هذا السبيل فليس له إلا أن يتجه فى ذلك إلى الموظف المشرف مباشرة على رجال النيابة وهو النائب العام أو إلى الرئيس الأعلى للنيابة وهو وزير الحقانية على أن يكون هذا التوجه بصفة سرية رعاية للحرمة الواجبة لها من أن لا يغض من كرامتها أمام الجمهور (راجع حكم محكمة النقض فى القضية رقم 1444 سنة ثانية قضائية).
على أن النيابة العامة إذا كانت قدّمت لمحكمة الجنايات متهمين كثيرين برأتهم تلك المحكمة فان تقديمها إياهم لم يكن إلا قياما بواجبها من تقديم كل من رأى قاضى الإحالة وجوب إحالته على محكمة الجنايات فلوم النيابة باسرافها فى الاتهام وكيلها التهم جزافا يشبه أن يكون مصادرة لها فى واجبها القانونى المحتم.
وبما أنه يتعين لهذا القضاء بحذف العبارتين الواردتين فى الحكم المطعون فيه وهما قول الحكم "إن النيابة العمومية أسرفت فى الاتهام" وقوله "إنها أسرفت أيضا فى حشد التهم وكيلها للمتهمين جزافا".
وبما أن مبنى الوجه الثانى من تقرير الأسباب المقدّم من النيابة أن قاضى الإحالة أحال المتهمين الثانى والرابع والخامس والسادس غيابيا إلى محكمة الجنايات فطلبت النيابة من تلك المحكمة إعادة القضية إليه لنظرها فى مواجهة أولئك المتهمين فرفضت المحكمة هذا الطلب ونظرت فى موضوع القضية معتمدة على تنازل هؤلاء المتهمين عن هذه المرحلة من الإجراءات وبحجة أن نظام قاضى الإحالة وضع لمصلحة المتهم وحده ولذلك له أن يتنازل عنه مع أن هذا الرأى يخالف القانون.
وبما أن المادة 12 (ب) من قانون تشكيل محاكم الجنايات والمادة 224 معدلة من قانون تحقيق الجنايات صريحتان فى أنه إذا صدر أمر باحالة متهم على محكمة الجنايات ولم يكن سبق حضوره أمام قاضى الإحالة وقبض عليه قبل الحكم فى قضية من محكمة الجنايات فيكون الإجراء كما لو كانت القضية لم تقدّم إلى قاضى الإحالة وأن من يحكم عليه غيابيا من محكمة الجنايات ولم يكن سبق حضوره أمام قاضى الإِحالة يكون الإجراء بشأنه كما لو كانت القضية لم تقدّم قبل إلى هذا القاضى.
وبما أن هذا النص فى المادتين لا يدع مجالا للشك فى أن ضبط المتهم الذى أحاله غيابيا قاضى الإحالة إلى محكمة الجنايات يبطل كل الإجراءات التى حصلت فى حقه ابتداء من قرار الإحالة الغيابى وتصبح هذه الإجراءات كأنها فى حكم العدم. فاذا ما أخذ بالرأى الذى قالت به محكمة الجنايات فى حكمها المطعون فيه كانت النتيجة أن المتهمين الأربعة الذين تنازلوا عن مرحلة قاضى الإحالة كأنهم محالون لها من غير أمر بالإحالة إذ الأمر الصادر فى غيبتهم لا وجود قانونيا له. وهذا لا يقره القانون إذ المادة التاسعة وما بعدها من قانون تشكيل محاكم الجنايات تقضى بأن كل قضية جنائية حققتها النيابة ينظرها قاضى إحالة قبل تقديمها لمحكمة الجنايات ويصدر فيها أمرا باحالتها عليها متى وجد مسوغا لذلك. فما لم يتم هذا الإجراء ويبق قائما فلا تعتبر محكمة الجنايات متصلة (saisie) اتصالا قانونيا بالدعوى.
وبما أن ما يمكن أن يدفع به فى خصوصية الدعوى الحالية من أن المتهمين الخامس والسادس حكمت محكمة الجنايات ببراءتهما فهما قد اكتسبا بهذه البراءة حقا لا يصح أن يضيعه كون الإجراء الذى تقدّم هذا الحكم كان باطلا - ما يمكن أن يدفع به من ذلك مردود بأن الحق لا يعتبر مكتسبا له حرمته إلا إذا كان مملك هذا الحق ذا أهلية لتمليكه، والذى هنا أن محكمة الجنايات لم تتصل بالدعوى لانعدام قرار الإحالة الأوّل انعداما بنص القانون وعدم وجود قرار جديد يبيح لها أن تعتبر نفسها متصلة بالدعوى وفى حل من نظرها.
وبما أن ما ذهب إليه الدفاع ومحكمة الجنايات من أن إجراءات قاضى الإحالة إنما شرعت لمصلحة المتهم فله أن يتنازل عنها كما له أن يتنازل عن حق المعارضة والاستئناف فى الجنح - هذا القول مردود أيضا بأن المعارضة والاستئناف لهما أجل محدود وهما كلاهما إجراء يقوم به نفس المتهم فى ذلك الأجل وإلا سقط حقه فيهما بنص القانون. أما إجراءات الإحالة فليست من عمل المتهم بل خطاب الشارع فيها هو خطاب عام موجه إلى جهات النيابة العمومية وقاضى الإحالة والمحكمة معا فهو إجراء متعلق بالنظام العام ولا يمنع تعلقه بهذا النظام أن يكون فى الأغلب الكثير من الأحيان حاصلا لمصلحة المتهم.
وبما أنه يبين من ذلك أن محكمة الجنايات قد أخطأت فى تأويل القانون إذ قضت بجواز نظر الدعوى المطروحة أمامها من غير أن ينظرها قاضى الإحالة فى حضرة المتهمين فيتعين نقض حكمها وإعادة القضية للنيابة لإجراء اللازم فيها قانونا.