مجموعة القواعد القانونية التي قررتها محكمة النقض والإبرام في المواد الجنائية - وضعها محمود أحمد عمر باشكاتب محكمة النقض والإبرام
الجزء السابع (عن المدة من 5 نوفمبر سنة 1945 لغاية 13 يونيه سنة 1949) - صـ 418

جلسة 15 من ديسمبر سنة 1947

برياسة سعادة سيد مصطفى باشا رئيس المحكمة وبحضور حضرات: أحمد علي علوبة بك وأحمد حلمي بك وأحمد حسني بك وحسن إسماعيل الهضيبي بك المستشارين.

(452)
القضية رقم 1847 سنة 17 القضائية

إثبات. اعتراف وليد إكراه. لا يصح الأخذ به ولو كان صادقاً. يجب بحث الإكراه وسببه وعلاقته بأقوال المتهم.
إذا كان دفاع المتهم مبنياً على أن الاعتراف المعزو إليه في التحقيقات كان وليد إكراه وقع عليه، وكان المستفاد مما قالته المحكمة أنها عولت على هذا الاعتراف وهونَّت من شأن ما ادعاه المتهم من أنه كان نتيجة وقوع الإكراه عليه، قائلة إن الآثار الطفيفة التي وجدت بالمتهم والتي أثبتها الكشف الطبي ليس من شأنها أن تدعوه إلى أن يقر بجريمة لها عقوبة مغلظة، فهذا منها لا يكفي رداً على ما تمسك به، إذ هي ما دامت قد سلمت بوقوع الإكراه على المتهم يكون عليها أن تعني ببحث هذا الإكراه وسببه وعلاقته بأقوال المتهم، فإن الاعتراف يجب ألا يعول عليه، ولو كان صادقاً، متى كان وليد إكراه كائناً ما كان قدره [(1)].


[(1)] الاعتراف تسليم من جانب المعترف بصحة واقعة من شأنها أن تنتج آثاراً قانونية في حقه. وهو بهذا المعنى العام يشمل الإقرار القضائي، أي الحاصل في مجلس القضاء، وغير القضائي، أي ما يحدث من صور للاعتراف كتابة أو شفاهاً أمام شهود أو أصحاب سلطة من سلطات البحث أو التحقيق. والإقرار في المسائل المدنية والتجارية إذا حصل في مجلس القضاء يفيد بذاته ثبوت الواقعة، ويغني عن كل دليل آخر بشرط أن يكون الموضوع مما يملك المقر التصرف فيه بالإسقاط أو بالصلح، وبشرط أن يكون الإقرار حاصلاً على نية التقيد به، أي مع علم المقر بأنه سيؤخذ به. فإذا لم يكن كذلك فإنه يعتبر بياناً يصح أن يستمد منه القاضي إما مبدأ ثبوت بالكتابة وإما قرينة بحسب الظروف والأحوال (راجع دالوز براتيك تحت كلمة إثبات. ن 1361، 1362، 1363، 1364، 1365 وملحقه جـ 3 ص 5 وما بعدها).
ولا يجوز للمقر في المسائل المدنية والتجارية أن يرجع في إقراره إلا للإكراه أو الغش أو الغلط، إذ الإقرار تعبير عن إرادة، فإذا انتزع نتيجة إكراه أو غش أو غلط لم تكن له قيمة، فإن المكره أو المخدوع، أو الواقع في الغلط، لا يمكن أن يعتبر في الحقيقة أنه أقر. وسيان أن يكون الغلط هنا في الواقع أو في القانون، فهو يعيب إرادة المقر في الحالتين ويفسد إقراره، ويبيح له الرجوع فيه (راجع كاربنتييه تحت كلمة إقرار وبعنوان عدم جواز الرجوع في الإقرار نبذة 153 - 174). والفقهاء الفرنسيون يعتبرون الإكراه والغش والغلط أسباباً تجيز العدول عن الإقرار، وذلك - كما يبدو - لأن القانون الفرنسي، كالقانون المصري، لم يتعرض بنصوص صريحة لتنظيم الإقرار وبيان المواضع التي يبطل فيها، كما فعل بالنسبة للالتزام أو للعقد من ذكر أحوال للبطلان بطلاناً نسبياً أو مطلقاً، فالإكراه إذن في المسائل المدنية سبب يجيز العدول عن الاعتراف لا وجه من أوجه بطلان الإجراءات.
والاعتراف في المسائل الجنائية لا يخرج عن كونه مجرد قرينة، لأن موضوعه دائماً مسألة لا يملك المقر التصرف فيها أو الصلح عليها، ولذلك ذهب معظم شراح القانون الفرنسي إلى أنه لا تجوز إقامة حكم الإدانة في الجنحة على إقرار المتهم غير المؤيد بدليل آخر، أما الجناية فلا يعرض فيها هذا البحث إذ يقضي فيها المحلفون من غير بيان أسباب (راجع فستان هيلي جـ 3 ن 1467 ولو جرفران جـ 1 ص 217) وقد خالف القضاء الفرنسي هذا النظر فأجاز في الجنح إقامة الحكم على الإقرار أو على الاعتراف غير المؤيد بدليل آخر (كاربنتييه تحت كلمة إقرار ن 418). ومن المسلم به عندهم في فرنسا أن الإكراه الأدبي أو المادي يزيل قيمة الاعتراف (راجع كارينتييه تحت العنوان السابق ن 391) ولكنهم لم يشيروا إلى أن ذلك يكون موضعاً لبطلان قانوني أو لجزاء قانوني يماثل البطلان، فإذا أثبت المتهم أن اعترافه كان وليد الإكراه، وأخذت به المحكمة رغم ذلك كان حكمها معيباً لفساد تسبيبه. والقوانين الأنجلوسكسونية، وإن كانت تجعل للاعتراف في المسائل الجنائية قيمة أكثر مما يعطيه القانونان الفرنسي والمصري من حيث أخذ المقر بإقراره واعتبار جريمته ثابتة بهذا الاعتراف بحيث لا يبقى بعده إلا الكلام في الظروف المؤثرة على العقوبة إلا أنها فيما يتعلق بتقدير عيوب الاعتراف لا تختلف عن وجهة نظر القوانين اللاتينية التي بسطناها فيما تقدم، فهي لا تشترط إلا أن يكون الاعتراف اختياراً Volantary ولا تتطلب أن يكون الاعتراف تلقائياً، أي صادراً من تلقاء نفس المتهم بغير دعوة أو سؤال. ويعتبر الاعتراف غير اختياري وبالتالي غير مقبول إذا حصل تحت تأثير تهديد أو خوف. والتهديد يشمل الأفعال والأقوال، وإذا ثبت أن الاعتراف حصل بتأثير التهديد فلا يهم تقصي درجة الخوف الذي تعرض له المتهم، ولكن يجب أن يكون الخوف وليد أمر غير قانوني فلا يكفي التذرع بالخوف من الاتهام أو من القبض أو من الحبس أو من العقاب عن الجريمة. ولقد قضي في أمريكا بأن التهديد يجب أن يكون بحيث يجعل جدارة الاعتراف بالتصديق أو الثقة محل شك، ولا يفسد الاعتراف وقوع اعتداء على المتهم لمقاومته للقبض، ولكن يفسده أن يكون قد حصل أثناء جلد زميل له في التهمة إذا حصل الجلد تحت سمعه وبصره (راجع موسوعة Corpus Juris الأمريكية جـ 16 ن 1493، 1494، 1495، 1498). وقد نبهوا هناك إلى أن كون المتهم كان يخشى اعتداء الغوغاء mob عليه عند إدلائه باعترافه لا يبطل هذا الاعتراف إذا كان هذا الخوف لم تثره تهديدات صريحة أو ضمنية، كذلك لا يبطله أن يعد المتهم أحد الضباط بأن يحميه من الغوغاء إذا لم يكن ذلك بقصد حمله على الاعتراف، ولكن يفسد الاعتراف إذا حصل نتيجة تهديد المتهم بتسليمه للغوغاء أو إفهامه بأن الاعتراف هو وسيلته الوحيدة للهرب من الغوغاء، ويفسد كذلك إذا كان المتهم قد أدلى باعترافه وهو محوط بالغوغاء خاضع لسيطرتهم يسمع شتائمهم ويراهم يهيئون الوسيلة لقتله أو لإيذائه (المرجع السابق ن 1496). على أن فساد الاعتراف غير الاختياري لا يمكن وصفه بالبطلان بالمعنى الذي نفهمه في القانونين المصري والفرنسي إذ أن الاعتراف غير الاختياري إذا كشف عن دليل ثبتت صحته من التحقيق، أو أدى إلى كشف وقائع تثبت بذاتها الاتهام فإن هذا الكشف وإن لم يؤدِ إلى قبول الاعتراف برمته intoto إلا أنه يجعل الاعتراف مقبولاً في حدود ما كشف من ذلك الدليل أو ما كشف من تلك الوقائع، وبناءً على ذلك ففي تهمة القتل العمد، يجوز الاستدلال باكتشاف جثة القتيل أو نقوده أو ملابسه أو السلاح الذي قتل به في مكان عينه المعترف - يجوز الاستدلال بذلك مع ما يرتبط بهذه الوقائع مباشرة من الاعتراف غير الاختياري على المتهم. كذلك في تهمة السطو يجوز قبول ذلك الجزء من الاعتراف غير الاختياري الذي يكشف به عن مكان إخفاء المسروقات وقبول كل ما قاله المعترف أو فعله في سبيل الإيصال إلى هذا الكشف، وذلك على الرغم من أن اعترافه بأنه ارتكب السرقة يكون غير مقبول (المرجع السابق ن 1506).
ولا نظن أن الفقيه المصري يبعد عن الصواب إذا قبل الحلول المتقدمة التي ترتضيها القوانين الأنجلوسكسونية، فيطرح الاعتراف إذا عابه إكراه، أو غش، أو غلط، على اعتبار أنه مع هذه العيوب لا يمكن أن تمثل أقوال المعترف حقيقة الواقع تمثيلاً يُطمأن إليه لا على اعتبار أن الاعتراف المشوب بهذه العيوب محل بطلان من جانب المشرع يستوجب محوه وتحريم الاستفادة به رعاية للنظام العام بصرف النظر عن صدقه في الواقع أو كذبه، لأن القانون المصري لم يفرض مثل هذا البطلان بنص صريح، ولا يمكن أن يستفاد أنه فرضه ضمناً إلا إذا تأولنا نص المادة 126 من قانون العقوبات التي تقضي بأن "كل موظف أو مستخدم عمومي أمر بتعذيب متهم أو فعل ذلك بنفسه لحمله على الاعتراف يعاقب بالأشغال الشاقة أو السجن من ثلاث سنوات إلى عشر - وإذا مات المجني عليه يحكم بالعقوبة المقررة للقتل العمد" - إلا إذا تأولنا هذا النص بأنه يفيد مقت المشرع لهذا الاعتراف الذي يعاقب على انتزاعه بهذه العقوبة الجسيمة مقتاً يصل إلى البطلان المطلق، كما تأولت المحكمة العليا نص المادة 128 من قانون العقوبات الخاصة بعقاب الموظفين الذين يدخلون المساكن بغير رضاء أصحابها فوصلت إلى إبطال التفتيش الحاصل فيها بغير إذْن. على أن هذا التأويل أو الاستنباط يخرج من دائرته الاعتراف غير الاختياري الذي لا يشترك في انتزاعه أحد أرباب الوظائف من المحققين أو من رجال البوليس ومن ماثلهم، والاعتراف غير الاختياري الذي لا يتعمد الموظف العمومي انتزاعه، ففي هاتين الحالتين - أي حالة ما يكون الإكراه الواقع على المتهم - سواء أكان مقصوداً به حمله على الاعتراف أو غير مقصود - واقعاً من غير أرباب الوظائف، وفي حالة ما يكون هذا الإكراه واقعاً من أحد أرباب الوظائف بغير قصد الحمل على الاعتراف - لا سبيل إلى تقرير البطلان المتعلق بالنظام العام، ولا نملك إلا أن نسلم للمقر بحقه في العدول عن إقراره لأنه كان مكرهاً عليه وبحق المحكمة في تقدير ذلك وفي الاستفادة من نتائج الاعتراف المادية في إثبات الدعوى.
وبعد فنرجو أن يكون في هذا العرض فضل بيان وتحديد للقاعدة المقررة في المتن.