مجموعة القواعد القانونية التي قررتها محكمة النقض والإبرام في المواد المدنية - وضعها محمود أحمد عمر باشكاتب محكمة النقض والإبرام
الجزء الأول (عن المدة من 12 نوفمبر سنة 1931 لغاية 29 أكتوبر سنة 1936) - صـ 964

جلسة 12 ديسمبر سنة 1935

برياسة سعادة عبد العزيز فهمى باشا رئيس المحكمة وبحضور حضرات: محمد لبيب عطية بك ومراد وهبة بك ومحمد فهمى حسين بك وحامد فهمى بك المستشارين.

(307)
القضية رقم 17 سنة 5 القضائية

وقف:
( أ ) الاستحقاق فى الوقف. أحكام الشريعة الإسلامية هى التى تجرى عليه.
(المواد 14 و19 و20 من القانون المدنى)
(ب) البناء فى دار الوقف. حكمه.
(المادتان 27 من مرشد الحيران و435 من قانون العدل والإنصاف)
(حـ) أسباب الحكم. تعرّض محكمة الموضوع لبحث غير لازم لصحة الحكم. لا بطلان.
(د) أسباب الحكم. إجمال العناصر الواقعية. عجز محكمة النقض عن مراقبة تطبيق القانون. بطلان الحكم.
1 - تنص المادة 19 من القانون على أنه "تراعى فيما يكون لصاحب الانتفاع من الحقوق وفيما يترتب عليه من الواجبات شروط العقد المترتب عليه حق الانتفاع". فمتى كان العقد المترتب عليه حق الانتفاع هو عقد وقف فأحكام الشريعة الإسلامية هى التى تجرى عليه من جهة تعيين مدى حقوق المستحقين وما يكون لهم من التصرفات فى الأعيان المستحقين فيها وتعيين مدى حقوق نظار الوقف وما يجوز لهم من التصرفات وما لا يجوز.
2 - إن فقهاء الشرع الإسلامى يفرّقون - فى حكم البناء فى دار الوقف - بين ما إذا كانت الدار موقوفة للسكنى وبين ما إذا كانت معدّة للاستغلال. فان كانت موقوفة للسكنى فحكمهم فيها أنها إذا احتاجت للعمارة فعمارتها على مستحق سكناها، فان بناها من ماله كان البناء ملكا له ولورثته من بعده (المادتان 27 من مرشد الحيران و435 من قانون العدل والإنصاف). ولا تفريق عندهم بين ما إذا كان مستحق السكنى ناظرا للوقف أو غير ناظر. وإنما يشترط على كل حال لاستحقاق البانى هو وورثته لملكية البناء أن تكون العمارة ضرورية وغير زائدة عما كانت عليه الدار زمن الواقف، وإلا فهو متبرع لا حق له ولا لورثته فى شىء من هذه الملكية. أما إن كانت الدار موقوفة للاستغلال فان المكلف بملاحظتها وصيانتها وعمارتها واستخراج غلتها إنما هو الناظر، ولا تدخّل فى هذا للمستحقين. وإنه مهما يكن الناظر هو المستحق الوحيد للغلة فان صفته فى الاستحقاق لا شأن لها فى شىء من ذلك، بل صفته فى النظارة هى وحدها المعتبرة فى هذا الخصوص. ويكون المرجع لمعرفة حكم العمارة التى أجراها الناظر المستحق الوحيد بمال نفسه إلى القواعد الشرعية الخاصة بتصرفات النظار. والحكم الشرعى فى هذا يتحصل فى أن العمارة متى كانت ضرورية يترتب على تأخيرها ضرر بّين بالأعيان، وليس للوقف مال فى يد الناظر، وجب عليه استئذان القاضى الشرعى فى الاقتراض، فاذا لم يتمكن من الاستئذان خشية التأخير والضرر، وأنفق من مال نفسه فى تلك العمارة الضرورية فان له الرجوع فى مال الوقف بما أنفق، بشرط أن يكون ما صرفه هو مصرف المثل وأن يكون عند الإنفاق قد أشهد على أنه ينوى الرجوع على الوقف؛ فان لم يشترط الرجوع ولم يشهد عليه اعتبر متبرعا ولا رجوع له. أما متى كانت العمارة غير ضرورية ضرورة عاجلة، أو كانت زائدة على الصفة التى كانت عليها الأعيان فى زمن الواقف فلا بدّ للناظر من استئذان القاضى الشرعى فى الاستدانة، كما لا بدّ من رضاء المستحقين بها أيضا، فان أنفق الناظر من مال نفسه فى العمارة دون استئذان القاضى اعتبر متبرعا ولا رجوع له على الوقف بما أنفق، سواء أشهد على نية الرجوع أو لم يشهد.
3 - الطعن فيما تكون محكمة الموضوع قد بحثته على سبيل الافتراض زائدا عما يلزم لصحة الحكم هو طعن غير منتج.
4 - إذا أجملت محكمة الموضوع بعض العناصر الواقعية فى الدعوى فأعجزت محكمة النقض عن مراقبة تطبيق القانون، فان حكمها يكون باطلا قانونا.
وإذن فاذا كانت محكمة الموضوع فى معرض بيان ما إذا كان ورثة ناظر الوقف قد حصّلوا فعلا من ريع المبانى التى أقامها مورّثهم (مما لا حق لهم فيه) مبلغا يفى بحقوقهم (فى ريع مبان أخرى أقامها) قد أجملت وأبهمت بحيث لا يعلم من حكمها ما هو بالضبط حقيقة هذا الريع الذى حصلوه ولا حق لهم فيه، وما هو حقيقة الريع وغير الريع مما لهم حق فيه قبل جهة الوقف، فان هذا الإبهام يجعل الحكم غير قائم على أساس قانونى ويتعين نقضه.


الوقائع

تتلخص وقائع هذه الدعوى - على ما جاء فى الحكم المطعون فيه وسائر المستندات المقدّمة - فى أن وزارة الأوقاف رفعت فى 23 يونيه سنة 1928 أمام محكمة مصر الابتدائية دعوى قيدت تحت رقم 1282 سنة 1928 على كل من محمد متبولى صفا أفندى وإبراهيم عصمت مظهر أفندى وعلى شوقى باشا القيم على محمد عصمت مظهر أفندى. وقد ذكرت فى صحيفتها أن المرحوم إسماعيل بشناق بك أوقف عقارات مبينة الحدود والمواقع بعريضة افتتاح الدعوى على نفسه مدة حياته ومن بعده على حفيدته عزيزة محمد رياض ومن بعدها على ذرّيتها وبعد انقراضهم على وجوه البر المبينة بكتاب الوقف، وأنه فى 13 فبراير سنة 1927 توفيت الست عزيزة وكانت المستحقة الوحيدة والناظرة على الوقف ولم تعقب أحدا فآل الوقف إلى الوزارة التى عينت ناظرة بقرار من المحكمة الشرعية صدر فى 15 مايو سنة 1927. ولما أرادت وضع يدها نازعها المدّعى عليهم. ومن أجل هذا تطلب الوزارة الحكم بصفة مستعجلة بتعيينها حارسة على أعيان الوقف لإدارتها واستغلالها حتى يفصل فى الملكية والحكم أيضا بتثبيت ملكية الوزارة للأعيان المتقدّم بيانها على اعتبارها تابعة لوقف إسماعيل بشناق بك الخيرى وتسليمها إليها. فقضت محكمة مصر فى 13 أغسطس سنة 1928 بتعيين وزارة الأوقاف حارسة. وفى موضوع الدعوى تمسك المدّعى عليهم وهم ورثة الست عزيزة رياض الناظرة السابقة بأنها فى حياتها أزالت المبانى القديمة المتهدّمة بالمنزل رقم 25 وضمت إلى أرضه 30 مترا و36 سنتيمترا مربعا اشترتها بمالها الخاص، ثم أقامت على القديم والجديد بناءً على طراز عصرى من مالها الخاص، وأنها أيضا هدمت من العقار الموقوف الآخر وهو رقم 27 ما هو متخرّب، وأقامت عليه عمارة جديدة من مالها أيضا فبلغت جميع التكاليف 5371 جنيها و720 مليما بما فيها ثمن الأرض المشتراة للعمارة رقم 25.
ثم إن أحدهم متبولى صفا أفندى رفع فعلا على وزارة الأوقاف دعوى فرعية ضمنها مذكرة له مؤرّخة فى 16 مايو سنة 1929 قرّر فيها أنه لا ينازع فى تبعية جميع الأعيان للوقف وأنه هو يطلب أن يحكم له ولسائر ورثة الست عزيزة بمبلغ 5371 جنيها و720 مليما المذكور. وقد انضم إليه أولئك الورثة فى هذه الدعوى الفرعية.
وفى 28 ديسمبر سنة 1929 قضت المحكمة الابتدائية بملكية الوقف للعمارة رقم 27 وتسليمها للوزارة وفيما يتعلق بالعمارة رقم 25 ندبت خبيرا لتطبيق مستندات طرفى الخصومة على الطبيعة لمعرفة ما يدخل فى كتاب الوقف وما لا يدخل.
أما بالنسبة للدعوى الفرعية فان المحكمة أوقفتها ريثما يقدّم الخبير تقريره. فلما قدّم التقرير وحصلت المناقشة فيه حكمت المحكمة بتثبيت ملكية الوزارة أيضا إلى العمارة رقم 25 ثم عجلت الدعوى الفرعية؛ ولما تمت المرافعة فيها قضت المحكمة بتاريخ 6 فبراير سنة 1933 برفضها وإلزام رافعيها بالمصاريف ومائتى قرش مقابل أتعاب المحاماة. فاستأنف إبراهيم عصمت مظهر أفندى هذا الحكم واستأنفه معه من تدعى الست بهية هانم قائلة إنها دائنة لمحمد عصمت مظهر أفندى المحجور عليه، وطلبا فى عريضتى استئنافهما المؤرّختين فى أوّل و2 أغسطس سنة 1933 الحكم بقبول الاستئناف وإلغاء الحكم المستأنف وإلزام وزارة الأوقاف بأن تدفع لكل منهما مبلغ 1342 جنيها و930 مليما وفوائده من سنة 1912 لغاية السداد وتثبيت ملكيتهما إلى نصيبهما فى الثلاثين مترا وكسورا بما عليها من البناء بحق الربع لكل منهما أو دفع الثمن لكل منهما وهو 229 جنيها و500 مليم. واستأنف أيضا محمد متولى صفا أفندى وعلى شوقى باشا بصفته قيما على محمد عصمت مظهر أفندى بعريضة مؤرّخة فى أوّل أغسطس سنة 1933 طالبين، بناء على الأسباب الواردة فيها، الحكم بقبول الاستئناف شكلا وفى الموضوع بالغاء الحكم الابتدائى وإلزام وزارة الأوقاف بأن تدفع لمتبولى صفا أفندى (الطاعن) مبلغ 2685 جنيها و860 مليما مع فوائده من يوليه سنة 1912 لغاية السداد وهو قيمة المستحق له بقدر النصف باعتباره زوج المورّثة عزيزة هانم وأن تدفع للقيم بصفته مبلغ 1342 جنيها و930 مليما مع فوائده وهو قيمة المستحق له بقدر الربع باعتباره ابن عم المورثة. وقد قيد هذان الاستئنافان بجدول محكمة استئناف محضر برقم 1024 سنة 50 و186 سنة 51 قضائية. وتقرّر بجلسة التحضير ضمهما معا. وبجلسة المرافعة صمم كل طرف على طلباته. وطلبت وزارة الأوقاف تأييد الحكم المستأنف. وقال ممثلها إن الخصوم الذين طلبوا فى الاستئناف تثبيت ملكيتهم لقطعة الأرض المشتراة إنما يقدّمون طلبا جديدا لا يجوز النظر فيه استئنافيا لأنه لم يطلب أمام محكمة أوّل درجة، ولم تكن هذه الملاحظة بطبيعة الحال موجهة إلى الطاعن فانه لم يطلب قط لا أمام المحكمة الابتدائية ولا أمام محكمة الاستئناف إلا نصيبه فى تكاليف تعمير المنزلين وثمن الأرض التى اشترتها مورّثته وأضافتها إلى المنزل رقم 25.
وبعد أن سمعت محكمة الاستئناف المرافعة وقدّم كل طرف مذكرة بدفاعه قضت بتاريخ 12 مايو سنة 1934 بقبول الاستئنافين شكلا وفى الموضوع برفضهما وتأييد الحكم المستأنف وإلزام كل فريق من المستأنفين بمصاريف استئنافه وبمائتى قرش مقابل أتعاب المحاماة لوزارة الأوقاف.
وقد أعلن هذا الحكم إلى الطاعن فى 12 يناير سنة 1935 فطعن فيه بطريق النقض فى 9 فبراير سنة 1935 بتقرير أعلن إلى المطعون ضدّها فى 14 من الشهر المذكور، وقدّم طرفا الخصومة المذكرات الكتابية فى الميعاد القانونى، وقدّمت النيابة مذكرتها فى 23 يونيه سنة 1935.
وقد حدّد لنظر هذه الدعوى جلسة يوم الخميس الموافق 24 أكتوبر سنة 1935 ثم تأجلت أخيرا إلى جلسة 28 نوفمبر سنة 1935 وفيها سمعت على الوجه المبين بمحضر الجلسة ثم تأجل النطق بالحكم لجلسة اليوم.


المحكمة

بعد سماع المرافعة الشفوية والاطلاع على الأوراق والمداولة قانونا.
بما أن الطعن قد قدّم فى ميعاده مستوفى الإجراءات القانونية فهو مقبول شكلا.
وبما الطعن يقوم على وجهين:
(الأوّل) أن الحكم الاستئنافى قد أخطأ فى تطبيق القانون وتأويله. وذلك أن مورّثة الطاعن مقرّر لها حق السكنى فى أعيان الوقف وهى إنما أجرت بناء ما انهدم من المعدّ لسكناها لعدم صلاحيته للسكنى أو للإسكان. والقاعدة الشرعية المسلم بها أن من كان له حق السكنى كان ما يحدثه من المبانى ملكا له ولورثته من بعده، وكان له ولهم حق الرجوع على جهة الوقف بقيمته عملا بالمواد 435 و436 و437 من قانون العدل والإنصاف حتى لو كان يسكن فى بعض الأعيان الموقوفة لا فيها جميعا. ويقول الطاعن إن هذه القاعدة مع كونها مجمعا عليها من الفقهاء فان الحكم المطعون فيه قد خالفها فهو إذن حكم باطل.
(الثانى) أن الحكم المطعون فيه قد قصر وأبهم فى بيان أربع نقط. وعبارة الطاعن فى هذا الصدد يمكن تلخيصها فيما يلى:
(الأولى) تطبيق المادة 65 من القانون المدنى، فان الطاعن تمسك بها أيضا فى استحقاق مورّثته لتكاليف العمارة التى أنشئت على أرض الوقف ما دام أنها لم تكن مغتصبة لتلك الأرض ولم يتقرّر حصول غش منها فى وضع يدها عليها والبناء فوقها، ولكن المحكمة رفضت تطبيقها بدون بيان أسباب.
(الثانية) أن المحكمة أجرت مقاصة بين قيمة هذه التكاليف وبين ما تقول إن الناظرة وورثتها حصلوا عليه من الريع مع أن من الأعيان جزءا كانت أرضه مملوكة للمورّثة بطريق المشترى. وكذلك كان مملوكا لها ما بنته عليه من مالها فهى المستحقة لريع هذا الجزء من جهة حق ملكيتها. ثم إنها كما سلف فى الوجه الأوّل مالكة للبناء الباقى الذى أقامته على أرض الوقف بمقتضى حق السكنى المشروط لها فهى أيضا مالكة لريع هذا الباقى بمقتضى حق ملكيتها. ولكن المحكمة مع اعتبارها إياها دائنة قد عمدت إلى ما افتكرته أنه جملة الريع المتحصل فاعتبرته دينا عليها وعلى ورثتها واستنزلته من دينها وذلك بطريق المقاصة، مع أن تلك المورّثة مالكة إن أخذت شيئا من الريع فبموجب حق ملكيتها، ولا يجوز خصم شىء من الريع من أجل دينها الذى على الوقف. على أن المحكمة مع ذلك قد أغمضت فلم تبين بصفة جلية كيف احتسبت الريع الذى تكون المورّثة وورثتها حصلوا عليه فعلا، بل إنها أبهمت فى ذلك إبهاما شديدا يجعل حسابها غير معتبر وحكمها به مضطربا غير قائم على أساس قانونى صحيح.
(الثالثة) أن المحكمة تكلمت عن الإشهاد الذى يعمله ناظر الوقف ليثبت به نيته فى الرجوع بما أنفق من ماله على أعيان الوقف. وقد رفضت المحكمة اعتبار إيصالات قدّمها الطاعن من مقاول العمارة مفيدة قيام نية المورّثة عند الإنفاق فى الرجوع بما أنفقته. ومع رفضها هذا فانها لم تبين كيف يكون الإشهاد المفيد شرعا لنية الرجوع.
(الرابعة) عدم احتساب فوائد المبالغ التى أنفقتها المورّثة.
ومن أجل هذا يطلب الطاعن نقض الحكم والقضاء له على الوزارة بصفتها بالمبلغ الذى طالب به فى دعواه مع فوائده من يوليه سنة 1912 لغاية التسديد والمصاريف.
وبما أنه يجب ابتداء التفريق بين قطعة الأرض التى اشترتها المورّثة لنفسها وبنت عليها وبين ما بنته على الأرض الوقف المجاورة لها وعلى باقى أرض الوقف الأخرى. فالجزء الأوّل مملوك لها أرضا وبناء، ولها ريعه خالصا، ولا يجوز تمليكه لجهة الوقف إلا برضائها أو رضاء ورثتها، ويكون لها ولورثتها، متى قبلوا ضمه لجهة الوقف، الحق فى تقاضى ثمنه أرضا وبناء كما قالت المحكمة الابتدائية بحق وتابعتها محكمة الاستئناف. والورثة المذكورون، ومنهم الطاعن، قد صرحوا فى دعواهم الفرعية بأنهم لا ينازعون فى ضم هذا الجزء بما عليه من البناء للوقف، وأنهم يطلبون قيمته أرضا وبناء. وقد طلبوها فعلا ضمن المبلغ الكلى الذى طالبوا به. أما الجزء الآخر وهو المبانى التى أقيمت بالعمارة رقم 27 وباقى المبانى التى أقيمت على أصل ملك الوقف بالعمارة رقم 25 فيجب فيها أن يلاحظ أن مورّثة الطاعن كانت ناظرة الوقف والمستحقة الوحيدة فيه، وأن الاستحقاق فى الوقف هو حق انتفاع (Usufruit) يرتبه الواقف على أعيان الوقف، وأن حق الانتفاع سواء أكان مطلقا أم كان مقيدا بالاستعمال الشخصى أو بمجرّد السكنى (كالمشار إليه بالمادة 14 من القانون المدنى) له أحكام مقرّرة بذلك القانون ابتداء من المادة 20، غير أنه يلاحظ من جهة أخرى أن المادة 19 من القانون المدنى نفسه قرّرت مبدئيا بأنه "تراعى فيما يكون لصاحب الانتفاع من الحقوق وفيما يترتب عليه من الواجبات شروط العقد المترتب عليه حق الانتفاع".
وبما أن العقد المترتب عليه حق الانتفاع فى الدعوى الحالية هو عقد وقف وعقود الوقف تجرى عليها أحكام الشريعة الإسلامية من جهة تعيين مدى حقوق المستحقين وما يكون لهم من التصرفات فى الأعيان المستحقين فيها وتعيين مدى حقوق نظار الوقف وما يجوز لهم من التصرفات وما لا يجوز، فأحكام الشريعة الإسلامية وما قيدتها به اللوائح الحكومية هى وحدها التى يكون إليها المرجع فى بيان حكم البناء الذى أقامته مورّثة الطاعن فى هذه المادة على أصل أعيان الوقف. ولم تخطئ إذن محكمة الاستئناف فى استبعادها تطبيق المادة 65 من القانون المدنى.
وبما أن فقهاء الشرع الإسلامى يفرّقون فى حكم البناء فى دار الوقف بين ما إذا كانت الدار موقوفة للسكنى وبين ما إذا كانت معدّة للاستغلال، فان كانت موقوفة للسكنى فحكمهم فيها أنها إذا احتاجت للعمارة فعمارتها على مستحق سكناها، فان بناها من ماله كان البناء ملكا له ولورثته من بعده (مادة 27 من مرشد الحيران و435 من قانون العدل والإنصاف)، ولا تفريق عندهم بين ما إذا كان مستحق السكنى ناظرا للوقف أو غير ناظر، وإنما يشترط على كل حال لاستحقاق البانى هو وورثته لملكية البناء أن تكون العمارة ضرورية وغير زائدة عما كانت عليه الدار زمن الواقف وإلا فهو متبرع لا حق له ولا لورثته فى شىء من هذه الملكية. أما إن كانت الدار موقوفة للاستغلال فان المكلف بملاحظتها وصيانتها وعمارتها واستخراج غلتها إنما هو الناظر، ولا تدخّل فى هذا للمستحقين، وإنه مهما يكن الناظر هو المستحق الوحيد للغلة فان صفته فى الاستحقاق لا شأن لها فى شىء من ذلك، بل صفته فى النظارة هى وحدها المعتبرة فى هذا الخصوص. ويكون المرجع لمعرفة حكم العمارة التى أجراها الناظر المستحق الوحيد بمال نفسه إلى القواعد الشرعية الخاصة بتصرفات النظار. والحكم الشرعى فى هذا، كما قالت محكمة الاستئناف بحق، يتحصل فى أن العمارة متى كانت ضرورية يترتب على تأخيرها ضرر بيّن بالأعيان وليس للوقف مال فى يد الناظر وجب عليه استئذان القاضى الشرعى فى الافتراض، فاذا لم يتمكن من الاستئذان خشية التأخير والضرر وأنفق من مال نفسه فى تلك العمارة الضرورية فان له الرجوع فى مال الوقف بما أنفق بشرط أن يكون ما صرفه هو مصرف المثل وأن يكون عند الإنفاق قد أشهد على أنه ينوى الرجوع على الوقف؛ فان لم يشترط الرجوع ولم يشهد عليه اعتبر متبرعا ولا رجوع له. أما متى كانت العمارة غير ضرورية ضرورة عاجلة أو كانت زائدة على الصفة التى كانت عليها الأعيان فى زمن الواقف فلا بدّ للناظر من استئذان القاضى الشرعى فى الاستدانة ومن رضاء المستحقين بها أيضا. فان أنفق الناظر من مال نفسه فى العمارة دون استئذان القاضى اعتبر متبرعا ولا رجوع له على الوقف بما أنفق سواء أشهد على نية الرجوع أو لم يشهد (راجع ما ورد بهذا الصدد فى كتاب قانون العدل والإنصاف بالفصل الخاص بما يجوز للقيم من التصرف وبالفصل الخاص ببيان المواضع التى يكون فيها للقيم الرجوع فى غلة الوقف وبالفصل الخاص بعمارة الدور المعدّة للاستغلال).
وبما أن الحكم المطعون فيه بحث موضوعيا فيما إذا كانت العمارة التى أجرتها مورّثة الطاعن ضرورية أم لا حتى يجرى عليها الحكم الشرعى فذكر ما يأتى:
إنه ظاهر جليا أن العمارة التى قامت بها الناظرة لم تكن ضرورية وإنما كانت زيادة فى الأعيان الموقوفة على الصفة التى كانت عليها فى زمن الواقف فكان من الواجب استئذان القاضى فى الاستدانة وكان ذلك ميسورا للناظرة (مورّثة الطاعن) لعدم وجود ضرر من تأخير ما أحدثته حتى تستوفى هذا الإجراء الضرورى. فاذا هى لم تفعل، مع قدرتها على ذلك، وصرفت من مالها الخاص فلا حق لها ولا لورثتها بالرجوع على الوقف بما أنفقته أشهدت أو لم تشهد. وهذا الذى أثبتته محكمة الاستئناف كاف وحده فى صحة حكمها بعدم استحقاق المورّثة ولا ورثتها لشىء من ملكية البناء أو تكاليفه باعتباره معدّا لسكناها ما دام هذا البناء لم يكن ضروريا، ولا لشىء من تكاليف هذا البناء باعتباره معدّا للاستغلال ما دام لم يكن ضروريا أيضا ولم تستأذن فيه القاضى الشرعى. ويكون الوجه الأوّل من أوجه الطعن غير معتبر.
وبما أن محكمة الاستئناف فوق ذلك افترضت (كما هو المفهوم ضمنا من حكمها) أن العمارة كانت ضرورية ضرورة عاجلة يخشى معها من الانتظار لحين استئذان القاضى فبحثت الدليل الذى قدّمه الطاعن على إشهاد مورّثته أنها عند ما أنفقت كانت تنوى الرجوع على الوقف فقالت إنها تلاحظ أن الإيصالات التى قدّمها ورثة الناظرة لا تعدّ إشهادا بالمعنى الشرعى للأسباب المدوّنة بالحكم الابتدائى فليس فيها ما يدل على صدور الإشهاد منها لعدم وجود توقيع لها على تلك الوصولات. وأسباب الحكم الابتدائى فى هذه النقطة بحث موضوعى استخلصت منه المحكمة أن تلك الإيصالات لا تعتبر إشهادا من المورّثة بأنها فيما أنفقت من مالها على الوقف كانت تنوى الرجوع بل إنها أوراق غير موثوق بها.
وبما أن هذا البحث الافتراضى زائد عما يلزم لصحة الحكم، فسواء أكانت الإيصالات التى قدّمها الطاعن تعتبر إشهادا أو لا تعتبر، فان كلام الطاعن فى هذا غير منتج.
وبما أنه يتحصل مع مراعاة ما تقدّم ومراعاة أحكام القانون:
(أوّلا) أن الجزء المشترى له هو وما أقيم عليه من المبانى حكم خاص هو استحقاق الورثة لملكيته ولريعه طيلة وضع يدهم عليه، ولا رجوع لأحد عليهم بشىء منه، ثم استحقاقهم لريعه أيضا قبل الوزارة من تاريخ استلامها إياه إلى تاريخ رفع دعواهم الفرعية، ثم استحقاقهم قبلها لقيمة هذا الجزء أرضا وبناء ولفوائد هذه القيمة من تاريخ رفع هذه الدعوى الفرعية إلى وقت التسديد.
(ثانيا) أن باقى المبانى التى أقامتها المورّثة على أصل أعيان الوقف لا حق لها فى شىء من تكاليفها، وإنما كان لها حق السكنى فيها أو الانتفاع بريعها فى مدّة حياتها، ولا رجوع عليها ولا على ورثتها بشىء من ذلك عن هذه المدّة. أما ورثتها فلا حق لهم فى شىء من غلة هذه الأعيان الأصلية بما عليها من مبانى مورّثتهم، بل عليهم ردّ ما يكونون حصلوه من ريعها أثناء وضع يدهم عليها من بعد وفاة المورّثة إلى وقت تسليمها للوزارة. وهذا الذى يجب عليهم ردّه لا مانع قانونا من المقاصة بينه وبين ما يستحقونه قبل الوزارة بسبب الجزء المشترى ما دام استحقاقهم هذا صار دينا يطالب الطاعن الوزارة به فى هذه الدعوى، وما دامت الوزارة فى دفاعها لدى محكمة الموضوع فى هذه الدعوى الفرعية تمسكت فى طلب رفضها بأن المورّثة والورثة حصلوا من الريع على ما يزيد عن قيمة ما يدّعونه من الحقوق.
وبما أن محكمة الاستئناف فى معرض بيان ما إذا كان الورثة حصّلوا فعلا من الريع الذى لا حق لهم فيه مبلغا يفى بحقوقهم قد أجملت وأبهمت بحيث لا يعلم من حكمها ما هو بالضبط حقيقة هذا الريع الذى حصلوه ولا حق لهم فيه، وما هو بالضبط حقيقة الريع وغير الريع مما لهم حق فيه قبل الوزارة.
وبما أن هذا الإبهام يجعل الحكم فى هذا غير قائم على أساس قانونى كما يقول الطاعن بحق، فيتعين نقضه نقضا جزئيا وإعادة الدعوى لمحكمة الاستئناف لتحقيق عناصر التقدير الخاص بكل جزء من الجزءين المتقدّمين وتحديدها تحديدا صريحا يمكن معه إعطاء كل منهما حكمه المتقدّم، وتعمل الحساب بين الطاعن بشأن حصته وبين الوزارة بعد هذا التحديد، وتقضى بحسب ما يظهر لها من نتيجة الحساب إن برفض دعواه وإن بالزام الوزارة بما قد يظهر طرفها له.