الجريدة الرسمية - العدد 50 مكرر(هـ) - السنة الثامنة والخمسون
5 ربيع الأول سنة 1437هـ، الموافق 16 ديسمبر سنة 2015م

باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا

بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت الخامس من ديسمبر سنة 2015م، الموافق الثالث والعشرين من صفر سنة 1437هـ.
برئاسة السيد المستشار/ عدلى محمود منصور - رئيس المحكمة.
وعضوية السادة المستشارين: الدكتور حنفى على جبالى ومحمد خيرى طه والدكتور عادل عمر شريف ورجب عبد الحكيم سليم وبولس فهمى إسكندر، وحاتم حمد بجاتو - نواب رئيس المحكمة.
وحضور السيد المستشار الدكتور/ عبد العزيز محمد سالمان رئيس هيئة المفوضين.
وحضور السيد/ محمد ناجى عبد السميع - أمين السر.

أصدرت الحكم الآتى

فى القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 173 لسنة 29 قضائية "دستورية".

المقامة من

السيد/ فتحى مصطفى الجمال.

ضـد

1 - السيد رئيس مجلس الوزراء.
2 - السيد رئيس مجلس الشعب.
3 - السيد المستشار وزير العدل.
4 - النيابة العامة.


الإجراءات

بتاريخ العاشر من يوليو سنة 2007، أودع المدعى صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة الدستورية العليا طلبًا للحكم بعدم دستورية نصى المادتين (69، 72) من قانون البيئة الصادر بالقانون رقم 4 لسنة 1994 وسقوط النصوص اللائحية المرتبطة بهما.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة، طلبت فى ختامها الحكم برفض الدعوى.
وبعد تحضير الدعوى, أودعت هيئة المفوضين تقريرًا برأيها.
ونُظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.


المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع تتحصل - على ما يتبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - فى أن النيابة العامة اتهمت المدعى فى القضية رقم 27846 لسنة 2006 جنح الدخيلة، بأنه فى يوم 18/ 4/ 2006 بصفته المدير المسئول عن منشأة شركة عز الدخيلة للصلب انبعث منها ملوث للهواء حال ممارستها لأنشطتها يجاوز الحد الأقصى المسموح به قانونًا. وبصفته السابقة: قام بإلقاء سائل غير معالج بنسبة حديد مرتفعة عن الحدود والمعايير المسموح بها بالبيئة البحرية (شاطئ البحر) والذى من شأنه إحداث تلوث، وطلبت عقابه بالمواد (1 و35 و69 و87/ 1، 2، 3) من القانون رقم 4 لسنة 1994 والمواد (26، 57، 58) من اللائحة التنفيذية لهذا القانون. وأثناء نظر الدعوى دفع المدعى بعدم دستورية نصى المادتين (69 و72) من قانون البيئة الصادر بالقانون رقم 4 لسنة 1994، وبعد تقدير المحكمة لجدية دفعه والتصريح له بإقامة دعواه الدستورية، أقام الدعوى الماثلة.
وحيث إن المادة (69) من قانون البيئة الصادر بالقانون رقم 4 لسنة 1994 تنص على أن "يُحظر على جميع المنشآت بما فى ذلك المحال العامة والمنشآت التجارية والصناعية والسياحية والخدمية تصريف أو إلقاء أية مواد أو نفايات أو سوائل غير معالجة من شأنها إحداث تلوث فى الشواطئ المصرية أو المياه المتاخمة لها سواء تم ذلك بطريقة إرادية أو غير إرادية مباشرة أو غير مباشرة ويعتبر كل يوم من استمرار التصريف المحظور، مخالفة منفصلة".
وتنص المادة (72) من القانون ذاته، قبل استبدالها بالقانون رقم 9 لسنة 2009 على أنه "مع مراعاة أحكام المادة (96) من هذا القانون, يكون ممثل الشخص الاعتبارى أو المعهود إليه بإدارة المنشآت المنصوص عليها فى المادة (69) التى تصرف فى البيئة المائية مسئولا عما يقع من العاملين بالمخالفة لأحكام المادة المذكورة، وعن توفير وسائل المعالجة طبقًا للمعايير والمواصفات الواردة باللائحة التنفيذية لهذا القانون. وتوقع عليه العقوبات المنصوص عليها فى المادة (87) من هذا القانون.
وحيث إن من المقرر فى قضاء المحكمة الدستورية العليا أن المصلحة الشخصية المباشرة، وهى شرط لقبول الدعوى الدستورية مناطها أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة فى الدعوى الموضوعية، مما مؤداه أن تفصل المحكمة الدستورية العليا فى الخصومة من جوانبها العملية، وليس من معطياتها النظرية أو تصوراتها المجردة، وهو ما يقيد تدخلها فى تلك الخصومة القضائية، ويرسم تخوم ولايتها، فلا تمتد لغير المطاعن التى يؤثر الحكم بصحتها، أو بطلانها على النزاع الموضوعى، وبالقدر اللازم للفصل فيها، كما لا تقبل الخصومة الدستورية من غير الأشخاص الذين يمسهم الضرر من جراء سريان النص المطعون فيه عليهم سواء أكان هذا الضرر وشيكًا يتهددهم، أم كان قد وقع فعلاً. ويتعين دومًا أن يكون الضرر منفصلاً عن مجرد مخالفة النص المطعون فيه للدستور، مستقلاً بالعناصر التى يقوم عليها، ممكنًا تحديده وتسويته بالترضية القضائية، عائدًا فى مصدره إلى النص المطعون فيه. متى كان ذلك، وكان الاتهام المسند إلى المدعى وإن تحدد بقرار النيابة العامة أنه بصفته مدير إدارة توكيد الجودة والأمن الصناعى والبيئة بشركة العز للصلب قام بإلقاء سائل غير معالج (نسبة حديد مرتفعة عن الحدود والمعايير المسموح بها) بالبيئة البحرية من شأنه إحداث تلوث، إلا أن الثابت بالأوراق أن هذا الاتهام بُنى على التقرير الصادر من جهاز شئون البيئة والذى ورد به أنه بالتفتيش على شركة عز الدخيلة للصلب تبين مخالفتها لحكم المادة (69) من قانون البيئة لزيادة تركيز عنصر الحديد عن الحدود والمعايير المسموح بها لبعض المواد عند صرفها فى البيئة البحرية، الأمر الذى يقطع بأن حقيقة الفعل المنسوب إلى المدعى هو صرف مخلفات المصنع الضارة فى البيئة البحرية، ومن ثم فإن المصلحة الشخصية للمدعى تتحدد فى الطعن على ما نصت عليه المادة (69) من قانون البيئة من حظر تصريف أية مواد أو نفايات أو سوائل غير معالجة من شأنها إحداث تلوث فى الشواطئ المصرية سواء تم ذلك بطريقة إرادية أو غير إرادية مباشرة أو غير مباشرة، وكذلك فيما تضمنته المادة (72) من القانون ذاته قبل استبدالها بنص المادة الأولى من القانون رقم 9 لسنة 2009 من مسئولية المعهود إليه بإدارة المنشآت المنصوص عليها فى المادة (69) من هذا القانون التى تصرف فى البيئة المائية عما يقع من العاملين بالمنشأة من مخالفة لأحكام المادة المذكورة ومعاقبته بالعقوبات المنصوص عليها فى المادة (87) من القانون ذاته.
وحيث إن من المقرر فى قضاء هذه المحكمة أن إلغاء المشرع قاعدة قانونية بذاتها، لا يحول دون الطعن عليها بعدم الدستورية من قبل من طُبقت عليه خلال فترة نفاذها، وترتبت بمقتضاها آثار قانونية بالنسبة إليه يتحقق بإبطالها مصلحته الشخصية المباشرة، ذلك أن الأصل فى القاعدة القانونية، هو سريانها على الوقائع التى تتم فى ظلها وحتى إلغائها، فإذا أُلغيت هذه القاعدة، وحلت محلها قاعدة قانونية أخرى، فإن القاعدة الجديدة تسرى من الوقت المحدد لنفاذها ويقف سريان القاعدة القديمة من تاريخ إلغائها، وبذلك يتحدد النطاق الزمنى لسريان كل من القاعدتين - دونما إخلال بمبدأ رجعية النص الجنائى الأصلح للمتهم فيما لو توافرت ضوابط إعمال هذا المبدأ - متى كان ذلك وكان المركز القانونى للمدعى نشأ مكتملاً فى ظل العمل بنص المادة (72) من قانون البيئة قبل استبدالها بالقانون رقم 9 لسنة 2009 ومن ثم فإن يظل خاضعًا لحكم تلك المادة قبل هذا الاستبدال.
وحيث إن قضاء المحكمة الدستورية العليا قد جرى على أن هيمنتها على الخصومة الدستورية وتوجيهها لإجراءاتها، وبمراعاة ما قصده المدعى منها، يقتضيها أن تُدْخِلَ فى نطاق المسائل الدستورية التى تُدعى للفصل فيها، ما يكون من النصوص القانونية مرتبطًا ارتباطًا لازمًا بالنصوص المطعون عليها، وكان من المقرر أن كل اتهام بجريمة يعنى أن مرتكبها قد أتى فعلاً معاقبًا عليه قانونًا، وكانت الفقرة الثانية من المادة (87) من قانون البيئة - قبل استبداله بالقانون رقم 9 لسنة 2009 - قد نصت على أنه "ويعاقب بغرامة لا تقل عن مائتى جنيه ولا تزيد على عشرين ألف جنيه كل من خالف أحكام المواد (38 , 41 , 69 , 70) من هذا القانون" ومن ثم، فإن نطاق الدعوى الماثلة يتحدد بنص المادتين (69، 72) محددين نطاقًا على النحو المتقدم، كما يمتد ليشمل العقوبة المقررة بالفقرة الثانية من المادة (87) من قانون البيئة - فى مجال ارتباطها بالمادة (69) من القانون ذاته.
وحيث إن من المقرر - فى قضاء هذه المحكمة - أن الرقابة الدستورية على القوانين من حيث مطابقتها للقواعد الموضوعية التى تضمنها الدستور، تخضع لأحكام الدستور القائم دون غيره، إذ أن هذه الرقابة تستهدف أصلاً صون الدستور القائم وحمايته من الخروج على أحكامه، باعتبار أن نصوص هذا الدستور تمثل القواعد والأصول التى يقوم عليها نظام الحكم، ولها مقام الصدارة بين قواعد النظام العام التى يتعين التزامها ومراعاتها وإهدار ما يخالفها من التشريعات، باعتبارها أسمى القواعد الآمرة. وحيث إنه بالبناء على ما تقدم، فإن هذه المحكمة تباشر رقابتها على النصوص المطعون عليها فى ضوء أحكام الدستور القائم الصادر فى سنة 2014
وحيث إن المدعى ينعى على نصى المادتين (69، 72) من قانون البيئة غموض صياغتهما وإخلالهما بمبادئ المساواة، والحرية الشخصية، وأصل البراءة، والمحاكمة المنصفة وشخصية العقوبة، بالمخالفة لنصوص المواد (40، 41، 66، 67) من دستور سنة 1971 المقابلة لنصوص المواد (53، 54، 96، 97) من الدستور القائم.
وحيث إن المقرر فى قضاء المحكمة الدستورية العليا أن القيود التى تفرضها القوانين الجزائية على الحرية الشخصية تقتضى أن تصاغ أحكامها بما يقطع كل جدل فى شأن حقيقة محتواها ليبلغ اليقين بها حدًا يعصمها من الجدل، وبما يحول بين رجال السلطة العامة وتطبيقها بصورة انتقائية، وفق معايير شخصية، تخالطها الأهواء، وتنال من الأبرياء لافتقارها إلى الأسس الموضوعية اللازمة لضبطها. كما أن افتراض براءة المتهم يمثل أصلاً ثابتًا يتعلق بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها، وليس بنوع العقوبة المقررة لها، وينسحب إلى الدعوى الجنائية فى جميع مراحلها، وعلى امتداد إجراءاتها، ومن ثم فقد كان من الحتم أن يرتب الدستور على افتراض البراءة عدم جواز نقضها بغير الأدلة الجازمة التى تخلص إليها المحكمة، وتتكون من جماعها عقيدتها، ولازم ذلك أن تطرح هذه الأدلة عليها، وأن تقول هى وحدها كلمتها فيها، وألا تفرض عليها أية جهة أخرى مفهومًا محددًا لدليل بعينه، وأن يكون رد الأمر دائمًا ما استخلصته هى من وقائع الدعوى، وحصلته من أوراقها، ملتزمة أحكام المسئولية الجنائية حسبما ينظمها القانون، غير مقيدة بوجهة نظر النيابة العامة أو الدفاع بشأنها.
وحيث إن الأصل فى الجرائم أنها تعكس تكوينًا مركبًا باعتبار أن قوامها تزامنًا بين يد اتصل الإثم بعملها، وعقلٍ واعٍ خالطها ليهيمن عليها محددًا خطاها، متوجهًا إلى النتيجة المترتبة على نشاطها ليكون القصد الجنائى ركنًا معنويًا فى الجريمة مكملاً لركنها المادى. وهذه الإرادة الواعية هى التى تتطلبها الأمم المتحضرة فى منهاهجها فى مجال التجريم بوصفها ركنًا فى الجريمة، ومن ثم غدا أمرًا ثابتًا كأصل عام ألا يُجَرَّم الفعل ما لم يكن إراديًا قائمًا على الاختيار الحر، إلا أن المشرع يعمد أحيانًا إلى تقرير جرائم عن أفعال لا يتصل بها قصد جنائى باعتبار أن الإثم ليس كامنًا فيها، وإنما ضبطها المشرع تحديدًا لمجراها وحدًا من مخاطرها، غير أن تقدير هذا النوع من الجرائم، ظل مرتبطًا بطبيعتها ونوعها ومنحصرًا فى الحدود الضيقة التى تقوم فيها علاقة مسئولية بين من يرتكبها وخطر عام لتكون أوثق اتصالاً بصحة المواطنين وسلامتهم فى مجموعهم، وبإهمال من قارفها النوع الرعاية التى تطلبها المشرع منه كلما باشر نشاطًا معينًا، وكذلك إذا أعرض عن القيام بعمل ألقاه باعتباره واجبًا، وبمراعاة أن ما تواخاه المشروع من إنشائها، هو الحد من مخاطر بذواتها، بتقليل فرص وقوعها، وإنما القدرة على السيطرة عليها والتحوط لدرئها.
وحيث إن توافر القصد الجنائى والذى يتمثل فى إرادة إتيان فعل أو أفعال بذواتها هو أصل ثابت فى الجرائم العمدية، أما الجرائم غير العمدية فلا تقوم إلا على الخطأ، وأن صوره على اختلافها يجمعها معيار عام يتمثل فى انحرافها عما يعد - وفقًا للقانون الجنائى - سلوكًا معقولاً للشخص المعتاد.
متى كان ذلك، وكان المشرع قد حظر فى المادة (69) من قانون البيئة المشار إليه على جميع المنشآت، تصريف أية مواد أو سوائل غير معالجة من شأنها إحداث تلوث فى الشواطئ المصرية، فإن هذا الحظر يوجب على جميع المخاطبين به الالتزام بذلك، فإن خالفوا هذا الأمر عمدًا كان الفعل إراديًا، وإن لم يتعمدوا ذلك ولكنهم لم يبذلوا من الجهد ما من شأنه أن يحول دون حدوث هذا التلوث تحققت صورة الجريمة غير العمدية، وإذ عين النص المطعون فيه على نحو قاطع وجازم حقيقة الالتزام الملقى على المنشآت الصناعية بأن حظر التصريف أو الإلقاء للمواد الضارة بالبيئة البحرية, وحددت اللائحة التنفيذية لهذا القانون النسب المصرح بإلقائها في البيئة البحرية ب 1.5 مليجرام من نفايات الحديد - وهى الجريمة التى قُدم المدعى للمحاكمة لارتكابها - وأوجب على هذه المنشآت معالجة النفايات غير المستوفية لهذه النسبة قبل صرفها فى البيئة البحرية، الأمر الذى يمثل أعلى درجات اليقين بحقيقة الالتزام الملقى عليها. كما أن النص المطعون فيه جاء قاطعًا فى عبارته، وحاسمًا فى دلالته على حظر تصريف جميع المنشآت بما فى ذلك المنشآت الصناعية أية مواد أو نفايات أو سوائل غير معالجة من شأنها إحداث تلوث فى الشواطئ المصرية، وكان فعل التصريف منضبطًا بالتعريف الوارد بنص البند (26) من المادة (1) من قانون البيئة قبل استبداله بالقانون رقم (9) لسنة 2009 بأنه "كل تسرب أو انصباب أو انبعاث أو تفريغ لأى نوع من المواد الملوثة أو التخلص منها فى مياه البحر الاقليمى..." بما مؤداه أن هذه الصور الخمس لفعل التصريف آنفة البيان والتى يمكن أن تتم بطريقة غير مباشرة فى حالة السلوك الإيجابى أو غير مباشرة كما فى حالة الامتناع السلبى عن تنفيذ التزامات يفرضها القانون، تشكل الركن المادى للجريمة المبينة فى النص المطعون فيه، ومن ثم فإن هذا النص يكون قد اتسم بالوضوح واليقين بما يجعل الأفعال المجرمة فيه جلية واضحة على نحو يبرر مسئولية مرتكبها، كما أن النيابة العامة ستظل دومًا مكلفة بإقامة الدليل على تحقق الركن المعنوى للجريمة سواء فى صورة العمد أو الخطأ، ويكون النعى عليه بالغموض والإبهام فى غير محله متعينًا الالتفات عنه.
وحيث إن النص المطعون فيه لم يتضمن أية قرينة على نسبة الجريمة المبينة به إلى فاعل بعينه، ولم يعف النيابة العامة من واجبها المقرر بمقتضى القوانين فى إقامة الأدلة على صحة الاتهام الذى تنسبه إلى مرتكب هذه الجريمة، فاعلاً أصليًا لها أو شريكًا فيها، ارتكبها بصورة عمدية أو خطأ، ولم يهدر حق المتهم فى التمتع بأصل البراءة إلى أن تثبت التهمة قبله بحكم نهائى، كما لم يُغمط حقه فى محاكمة عادلة وفق القواعد الإجرائية الصحيحة التى يتاح له فيها بسط حججه، وينعقد للمحكمة تقييم هذه الحجج بطريقة عادلة ومنصفة، ومن ثم فإنه يكون قد سلم من قالة الافتئات على أصل البراءة، ومظنة اصطناع القرائن التى تحد من حرية القاضى فى تكوين عقيدته من بين عناصر الاتهام الجنائى المطروح عليه، ولا يكون بالتالى مخالفًا لمبدأى الحرية الشخصية وأصل البراءة المنصوص عليهما فى المادتين (54، 96) من الدستور القائم.
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن شرعية الجزاء، جنائيًا كان، أو مدنيًا، أو تأديبيًا، مناطها، أن يكون متناسبًا مع الأفعال التى أثمها المشرع، أو حظرها، أو قيد مباشرتها، وأن الأصل فى العقوبة هو معقوليتها، فلا يكون التدخل بها إلا بقدر ما يكون الجزاء ملائمًا لجريمة بذاتها، ينبغى أن يتحدد على درجة خطورتها ونوع المصالح التى ترتبط بها، وبمراعاة أن الجزاء الجنائى لا يكون مخالفًا للدستور إلا إذا اختل التعادل بصورة ظاهرة بين مداه وطبيعة الجريمة التى تعلق بها، ودون ذلك يعنى إحلال هذه المحكمة لإرادتها محل تقدير متوازن من السلطة التشريعية للعقوبة التى فرضتها. إذا كان ذلك، وكانت عقوبة جريمة تصريف أية مواد أو نفايات أو سوائل غير معالجة من شأنها إحداث تلوث فى الشواطئ المصرية هى الغرامة التى لا تقل عن مائتى جنيه ولا تجاوز عشرين ألف جنيه عملاً بنص الفقرة الثانية من المادة (87) من قانون البيئة - قبل استبدالها بالقانون رقم 9 لسنة 2009 - ، وكان هذا النص قد ناط بمحكمة الموضوع تقدير مبلغ الغرامة بين حدين أدنى وأقصى بمراعاة خطورة سلوك الجانى، وحجم الضرر الناشئ عن فعله، وطبيعة القصد الجنائى لديه، ومن ثم يكون الجزاء الوارد به فى مجال ارتباطه بنص المادة (69) من قانون البيئة متناسبًا مع جسامة الجرم الذى انتظمته أحكام المادة المؤثمة للفعل، محققًا للمصلحة التى شُرع من أجلها بغير غلو أو تفريط.
وحيث إن المقرر فى قضاء المحكمة الدستورية العليا أن الدستور حدد لكل من السلطتين التشريعية والقضائية ولايتها، ورسم تخومها فلا يجوز لإحداهما أن تباشر مهام اختص بها الدستور غيرها، وإلا وقع عملها باطلاً.
وحيث إن الدستور - بما نص عليه فى المادة (66) - من دستور سنة 1971، التى تقابل المادة (95) من الدستور القائم - من أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لصدور القانون الذى ينص عليها، قد دل على أن لكل جريمة ركنًا ماديًا لا قوام لها بغيره، يتمثل فى فعل أو امتناع وقع بالمخالفة لنص عقابى مؤكدًا بذلك أن ما يركن إليه القانون الجنائى - فى زواجره ونواهيه - هو مادية الفعل المؤاخذ على ارتكابه؛ إيجابيًا كان هذا الفعل أم سلبيًا.
وحيث إن الأصل فى الجريمة، أن عقوبتها لا يتحمل بها إلا من أدين كمسئول عنها، وهو عقوبة يجب أن تتوازن وطأتها مع طبيعة الجريمة موضوعها، بما مؤداه أن الشخص لا يَزِرُ غير سوء عمله، وأن جريرة الجريمة لا يؤاخذ بها إلا جناتها، ولا ينال عقابها إلا من قارفها، وأن شخصية العقوبة وتناسبها مع الجريمة محلها، مرتبطان بمن يعد قانونًا مسئولاً عن ارتكابها، ومن ثم تفترض شخصية العقوبة شخصية المسئولية الجنائية، وبما يؤكد تلازمهما، ذلك أن الشخص لا يكون مسئولاً عن الجريمة، ولا تفرض عليه عقوبتها، إلا باعتباره فاعلاً لها أو شريكًا فيها. ولئن كان ما تقدم يعبر عن العدالة الجنائية فى مفهومها الحق، ويعكس بعض صورها الأكثر تقدمًا، إلا أن ذلك ليس غريبًا عن العقيدة الإسلامية، بل أكدتها قيمها العليا، إذ يقول تعالى - فى محكم آياته - (فى سورة سبأ الآية 25): "قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون" فليس للإنسان إلا ما سعى، وما الجزاء الأوفى إلا صِنْو عمله، وكان وليد إرادته الحرة، متصلاً بمقاصدها.
وحيث إن المقرر أن حق الفرد فى الحرية، ينبغى أن يُوازن بحق الجماعة فى الدفاع عن مصالحها الحيوية، انطلاقًا من إيمان الأمم المتحضرة بأن النظم العقابية جميعها تتقيد بأغراضها النهائية، التى تكفل لكل متهم حدًا أدنى من الحقوق التى لا يجوز النزول عنها أو الإخلال بها. ويندرج تحت هذه الحقوق افتراض البراءة باعتباره أصلاً ثابتًا يتعلق بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها وليس بنوع أو قدر العقوبة المقررة لها، ولأن مؤداه ألا تعتبر واقعة تقوم بها الجريمة ثابتة بغير دليل، فلا يفترضها المشرع.
وحيث إن الاختصاص المقرر دستوريًا للسلطة التشريعية فى مجال إنشاء الجرائم وتقرير عقوبتها، لا يخولها التدخل بالقرائن التى تنشئها لغل يد المحكمة عن القيام بمهمتها الأصلية فى مجال التحقق من قيام أركان الجريمة التى عينها المشرع إعمالاً لمبدأ الفصل بين السلطتين التشريعية والقضائية.
متى كان ما تقدم، وكان المشرع بنص المادة (72) من قانون البيئة - قبل استبداله بالقانون رقم 9 لسنة 2009 - قد أقام قرينة قانونية غير قابلة لإثبات العكس على قيام المسئولية الجنائية فى حق المعهود إليه بإدارة الشخص الاعتبارى الذى تصرف منشآته أية مواد أو نفايات أو سوائل غير معالجة من شأنها إحداث تلوث فى الشواطئ المصرية سواء تم ذلك بطريقة إرادية (عمدية) ومباشرة أو غير إرادية (غير عمدية) مما مؤداه أن يكون المعهود إليه بإدارة الشخص الاعتبارى مسئولاً عن الأفعال المكونة للجريمة التى ارتكبها غيره، ولم يكن له فيها أية مساهمة أصلية أو تبعية، اكتفاء بوقوع تلك الأفعال المؤثمة من العاملين بالمنشأة، بديلاً عن أى سلوك إيجابى أو سلبى، يقوم به الركن المادى للجريمة، يصدر عن المعهود إليه بإدارة الخص الاعتبارى أو يمتنع عن مباشرته إخلالاً بالتزام قانونى، وكان مؤدى هذه القرينة حرمان محكمة الموضوع من النظر فى توافر عناصر القصد الجنائى فى هذه الجريمة إذ يمتنع عليها نفى القصد الجنائى عن المعهود إليه بالإدارة ولو ثبت لديها عدم علمه بواقعة تصريف المواد الملوثة فى البيئة المائية، أو عدم اتجاه إرادته إلى المساهمة الجنائية فى هذه الأفعال التى ارتكبت من عمال المنشأة المعهود إليه إدارتها، أو وقوع التلوث رغم عدم إخلاله بواجبات وظيفته على أية صورة كانت. مما مؤداه أن المشرع قد أقام جريمة تصريف المواد الملوثة فى حق المعهود إليه بإدارة المنشآت المنصوص عليها فى المادة (69) من القانون ذاته دون أن يستلزم ارتكابه الركن المادى لهذه الجريمة، أو يتوفر فى حقه القصد الجنائى لها من علم وإرادة إذا ما وقعت الجريمة فى صورتها العمدية، أو علم بغير إرادة تحقيق النتيجة فى صورتها غير العمدية، الأمر الذى يعنى أن إرادة المشرع فى الإدانة حلت محل سلطة المحكمة فى التحقيق من توافر أركان الجريمة، كما حال النص فى الوقت ذاته بين المتهم وحقه فى الدفاع، فتركه نهبًا لاتهام لا سبيل لنفيه ولا حيله فى دفعه.
وحيث إن النص المطعون فيه قد أخل كذلك بمبدأ المساواة إذ أقام تمييزًا غير مبرر بين المعهود إليهم بإدارة المنشآت المنصوص عليها فى المادة (69) من قانون البيئة وملاك تلك المنشآت، إذ أعفى الطائفة الأخيرة من هذه القرينة، إذ تستطيع دومًا نفى الركنين المادى والمعنوى للجريمة والدفاع عن أنفسها فى مواجهة الاتهام الموجه إليهم بكافة السبل والوسائل القانونية فى حين أن من يعهد إليه بإدارة تلك المنشآت لا يملك نفى مسئوليته عن الفعل المجرم استنادًا إلى القرينة القانونية التى أقامها المشرع فى حقه، ومن ناحية أخرى فقد أقام النص المطعون فيه تميزًا غير مبرر بين المخاطبين بأحكامه وغيرهم من المتهمين بالجرائم المنصوص عليها فى بعض نصوص القانون ذاته كالجرائم المنصوص عليها فى المادتين (38، 41) منه، إذ لم ينشئ فى مواجهة هؤلاء المتهمين أية قرائن تتعلق بإثبات الجريمة ومن ثم تلتزم النيابة العامة بأن تقيم الدليل على ارتكابهم لهذه الجرائم ويكون لهؤلاء المتهمين فى الوقت ذاته حق نفى كل دليل يقام فى مواجهتهم.
وحيث إنه بناء على ما تقدم يكون نص المادة (72) المطعون فيه مخالفًا لأحكام المواد (53، 54، 94، 95، 96، 98) من الدستور.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة:
بعدم دستورية نص المادة (72) من قانون البيئة الصادر بالقانون رقم 4 لسنة 1994 - قبل استبداله بالقانون رقم 9 لسنة 2009 - فيما تضمنه من مسئولية المعهود إليه بإدارة المنشآت المنصوص عليها فى المادة (69) من القانون ذاته عما يقع من العاملين فيها بالمخالفة لأحكام المادة المذكورة، ورفض ما عدا ذلك من طلبات وألزمت الحكومة المصروفات، ومبلغ مائتى جنيه مقابل أتعاب المحاماة.

أمين السر رئيس المحكمة