الجريدة الرسمية - العدد 8 مكرر (و) - السنة الثامنة والخمسون
6 جمادى الأولى سنة 1436ه، الموافق 25 فبراير سنة 2015م

باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا

بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت الرابع عشر من فبراير سنة 2015م، الموافق الخامس والعشرين من ربيع الآخر سنة 1436هـ.
برئاسة السيد المستشار/ عدلى محمود منصور رئيس المحكمة.
وعضوية السادة المستشارين: الدكتور حنفى على جبالى والسيد عبد المنعم حشيش وسعيد مرعى عمرو ورجب عبد الحكيم سليم وبولس فهمى إسكندر والدكتور حمدان حسن فهمى نواب رئيس المحكمة.
وحضور السيد المستشار/ محمود محمد غنيم رئيس هيئة المفوضين.
وحضور السيد/ محمد ناجى عبد السميع أمين السر.

أصدرت الحكم الآتى

فى القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 178 لسنة 32 قضائية "دستورية".

المقامة من

السيد/ عثمان محمد عثمان.

ضـد

1 - السيد رئيس الجمهورية.
2 - السيد رئيس مجلس الوزراء.
3 - السيد رئيس مجلس الشعب.
4 - السيد/ وائل فاروق بسيونى الفيشاوى.
5 - السيد/ زياد محمد خليل مباشر.
6 - السيد/ وسام على إبراهيم.
7 - السيد وزير العدل.
8 - السيد رئيس محكمة الإسكندرية الابتدائية.


الإجراءات

بتاريخ الرابع من نوفمبر سنة 2010،أودع المدعى صحيفة الدعوى الماثلة قلم كتاب المحكمة الدستورية العليا، طالبًا فى ختامها الحكم بعدم دستورية نصوص المواد (495) و(496) و(497) من قانون المرافعات المدنية والتجارية الصادر بالقانون رقم 13 لسنة 1968.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة بدفاعها، طلبت فى ختامها الحكم؛ أصليًّا: بعدم قبول الدعوى، واحتياطيًّا: برفضها.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرًا برأيها.
ونُظرت الدعوى على النحو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.


المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع تتحصل - على ما يتبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - فى أن المدعى كان قد أقام ضد القضاة المدعى عليهم الرابع والخامس والسادس دعوى المخاصمة رقم 14 لسنة 66 قضائية أمام محكمة استئناف الإسكندرية؛ على سند من القول بارتكابهم خطًا مهنيًّا جسيمًا عند نظرهم الدعوى رقم5966 لسنة 2009 مدنى كلى الإسكندرية؛ طالبًا الحكم؛ أولاً: بقبول طلب المخاصمة شكلاً، ثانيًا: بإلغاء القرار الصادر من هيئة المحكمة المشكلة منهم بجلسة 1/ 3/ 2010،مع ما يترتب على ذلك من آثار، مع إلزام المُخاصمين بالتعويض المؤقت وقدره 10001 جنيه. وأسس المدعى طلباته على أنه كان قد صدر لصالحه الحكم فى الدعوى رقم 1553 لسنة 2006مدنى كلى الإسكندرية؛ بأحقيته فى أخذ العقار رقم 19 تنظيم إبراهيم نصير - لوران – قسم الرمل؛ بالشفعة، فطعن عليه السيد/ أحمد محمد محمد مصطفى وآخرون أمام محكمة استئناف الإسكندرية بالاستئناف رقم 5391 لسنة 63 قضائية، حيث قضت المحكمة بعدم جواز نظر استئنافهم لإقامته بعد الميعاد المقرر قانونًا، فقام المدعى بتسجيل الحكم بالشهر العقارى تحت رقم 1465 لسنة 2007 الإسكندرية، فأقاموا ضده الدعوى رقم 5966 لسنة 2009 مدنى كلى الإسكندرية، طالبين الحكم؛ أولاً: بندب خبير فى الدعوى تكون مهمته معاينة العقار محل النزاع؛ الثابت ملكيتهم له بالحكم الصادر فى الدعوى رقم 146لسنة 2005 مدنى مستأنف الإسكندرية، ثانيًا: بانتقال الخبير إلى الشهر العقارى للاطلاع على السجلات والدفاتر والأوراق لبيان ما إذا كانت هناك عقود مسجلة ومشهرة بملكية المدعى وبانتفاعه بالعقار، فأصدرت هيئة المحكمة المشكلة من القضاة المُخاصمين قرارًا بجلسة 1/ 3/ 2010، باللجوء إلى الشهر العقارى بالإسكندرية لبيان ما إذا كانت هناك عقود مسجلة بملكية المدعى لحق الانتفاع بالعقار وطلبت شهادة من جهاز تصفية الحراسات لبيان ما إذا كان المدعى مالكًا لهذا الحق وبيان المتصرف إليهم وسندهم، مما حدا بالمدعى إلى إقامة دعوى المخاصمة رقم 14 لسنة 66 قضائية أمام محكمة استئناف الإسكندرية ضد القضاة المُخاصمين على سند من القول بارتكابهم خطأ مهنيًا جسيمًا؛ بإصدارهم القرار المشار إليه دون طلب من أى من أطراف الدعوى.وبجلسة 9/ 10/ 2010، دفع المدعى بعدم دستورية نصوص المواد (495) و(496) و(497) من قانون المرافعات المدنية والتجارية الصادر بالقانون رقم 13 لسنة 1968، وإذ قدرت المحكمة جدية الدفع وصرحت للمدعى بإقامة الدعوى الدستورية، فقد أقام الدعوى الماثلة.
وحيث إن من المقرر فى قضاء هذه المحكمة أن الأصل فى النصوص التشريعية هو افتراض تطابقها مع أحكام الدستور، ويتعين بالتالى إعمالاً لهذا الافتراض وكشرط مبدئى لإنفاذ محتواه أن تكون المطاعن الموجهة إلى هذه النصوص جلية فى معناها واضحة فى الدلالة على المقصود منها لا يحيطها التجهيل أو يكتنفها الغموض، وبوجه خاص كلما كان النص التشريعى المطعون فيه مكونًا من عدة أجزاء يقوم كل منها مستقلاً عن الآخر فى مضمونه، إذ يتعين على الطاعن أن يبين على وجه التحديد أيها وقع - فى تقديره - منافيًا لأحكام الدستور وإلا كان الطعن غير مقبول. متى كان ذلك، وكان المدعى قد أقام دعواه الماثلة طعنًا على نصوص المواد (495و496 و497) من قانون المرافعات، وكانت مناعى المدعى الدستورية قد انصبت فقط على ما ورد بالفقرة الثانية من المادة (495) من القانون ذاته من وجوب أن يشتمل تقرير المخاصمة على بيان أوجه المخاصمة وأدلتها وأن تودع معه الأوراق المؤيدة لها وكذلكما نصت عليه الفقرة الأولى من المادة (496) من القانون ذاته من أن تحكم المحكمة فى تعلق أوجه المخاصمة بالدعوى وجواز قبولها وذلك بعد سماع الطالب أو وكيله والقاضى أو عضو النيابة المخاصم حسب الأحوال، وخلت صحيفة دعواه الدستورية من أية مطاعن دستورية تجاه نص المادة (497) من القانون ذاته، فإن طعنه عليها يكون مجهلاً، الأمر الذى يتعين معه القضاء بعدم قبول هذا الشق من الدعوى.
وحيث إن المادة (495) من قانون المرافعات الصادر بالقانون رقم 13 لسنة 1968 مستبدلة بالقانون رقم 18 لسنة 1999تنص على أن: " تُرفع دعوى المخاصمة بتقرير فى قلم كتاب محكمة الاستئناف التابع لها القاضى أو عضو النيابة يوقعه الطالب أو من يوكله فى ذلك توكيلاً خاصًا، وعلى الطالب عند التقرير أن يودع خمسمائة جنيه على سبيل الكفالة.
ويجب أن يشتمل التقرير على بيان أوجه المخاصمة وأدلتها وأن تودع معه الأوراق المؤيدة لها.
وتُعرض الدعوى على إحدى دوائر محكمة الاستئناف بأمر من رئيسها بعد تبليغ صورة التقرير إلى القاضى أو عضو النيابة وتُنظر فى غرفة المشورة فى أول جلسة تعقد بعد ثمانية الأيام التالية للتبليغ.
ويقوم قلم الكتاب بإخطار الطالب بالجلسة".
كما تنص المادة (496) من القانون ذاته على أن: " تحكم المحكمة فى تعلق أوجه المخاصمة بالدعوى وجواز قبولها وذلك بعد سماع الطالب أو وكيله والقاضى أو عضو النيابة المُخاصم حسب الأحوال وأقوال النيابة العامة إذا تدخلت فى الدعوى.
وإذا كان القاضى المخاصم مستشارًا بمحكمة النقض تولت الفصل فى جواز قبول المخاصمة إحدى دوائر هذه المحكمة فى غرفة المشورة ".
وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن مقتضى نص المادة (29/ ب) من قانون المحكمة الدستورية العليا الصادر بالقانون رقم 48لسنة 1979، أن يتحدد نطاق الدعوى الدستورية التى أتاح المشرع للخصوم إقامتها، بنطاق الدفع بعدم الدستورية الذى أُثير أمام محكمة الموضوع مرتبطًا بالطلبات الموضوعية وفى الحدود التى تقدر فيها تلك المحكمة جديته. لما كان ذلك، وكان المدعى يهدف إلى تمكينه من إبداء دفاعه على قدم المساواة مع خصومه فى دعوى المخاصمة، وذلك بعدم إلزامه ببيان أوجه المخاصمة وأدلتها وإيداع الأوراق المؤيدة لها؛ قبل نظر الدعوى بشأن جواز قبولها، وعدم تقيده فى دفاعه أثناء نظرها بتلك الأوجه، وكان نص كل من الفقرة الثانية من المادة (495) والفقرة الأولى من المادة (496) من قانون المرافعات المدنية والتجارية المشار إليه يحولان - فى نظر المدعى - دون تحقيق ذلك الأمر، فإن المصلحة الشخصية المباشرة للمدعى تتحقق بالطعن بعدم دستورية هذين النصين بحسبان أن الفصل فى دستوريتهما سيكون له انعكاس على الدعوى الموضوعية، وبهما وحدهما يتحدد نطاق الدعوى الدستورية.
وحيث إن المدعى ينعى على النصين المطعون فيهما - محددين نطاقًا على النحو المتقدم - مخالفتهما لنصى المادتين (40) و(69) من دستور سنة 1971، على سند من أن هذين النصين قد حرماه من إبداء دفاعه على قدم المساواة مع خصومه فيها، وذلك بإلزامه ببيان أوجه المخاصمة وأدلتها وإيداع الأوراق المؤيدة لها؛ قبل نظر الدعوى بشأن جواز قبولها، ووجوب تقيده فى دفاعه أثناء نظرها بتلك الأوجه، فلا يجوز له أن يقرر سواها أو أن يودع أى أوراق أو مستندات أخرى غير ما أودعه عند رفع الدعوى، ومايزا بذلك بينه وبين القضاة المُخاصمين فيها الذين يحقلهم إبداء دفاعهم مُحررًا من كل قيد، والمطالبة بالتعويض عن طريق الطلب العارض،وتقديم ما يشاءون من أوراق ومستندات لتدعيم الأدلة على توافر أركان المسئولية فى شأن المدعى، دون أن يتاح له الرد على تلك الأوراق والمستندات؛ بالرغم من وحدة طبيعة الدعوى وتكافؤ المراكز القانونية للمتداعين فيها، وبذلك يقيم النص المطعون فيه تمييزًا تحكميًّا غير مبرر، وهو ما يُعد إخلالاً بمبدأ المساواة وتقييدًا لحق الدفاع.
وحيث إن الرقابة الدستورية على القوانين، من حيث مطابقتها للقواعد الموضوعية التى تضمنها الدستور، إنما تخضع لأحكام الدستور القائم دون غيره، إذ أن هذه الرقابة إنما تستهدف أصلاً - على ما جرى عليه قضاء هذه المحكمة - صون الدستور القائم وحمايته من الخروج على أحكامه، وأن نصوص هذا الدستور تمثل دائمًا القواعد والأصول التى يقوم عليها نظام الحكم ولها مقام الصدارة بين قواعد النظام العام التى يتعين التزامها ومراعاتها وإهدار ما يخالفها من التشريعات باعتبارها أسمى القواعد الآمرة.
وحيث إنه بالبناء على ما تقدم، فإن هذه المحكمة تباشر رقابتها على النصوص المطعون عليها فى ضوء أحكام الدستور المعدَّل الصادر سنة 2014.
وحيث إن مفاد نصوص قانون المرافعات المدنية والتجارية فى شأن إجراءات وشروط مخاصمة القضاة السالف بيانها؛ أن المشرع قد أفرد دعوى مخاصمتهم بإجراءات وقواعد خاصة بهدف تحقيق ضمانات أدائهم أعمالهم؛ وتوفير الحماية اللازمة لهم من الادعاءات الكيدية التى تتغيا مجرد المساس بكرامتهم وهيبتهم والتشهير بهم، مما يتعين معه وجوب قصر مخاصمتهم على ما يقومون به من أعمال قضائية، فلا يتسع نطاقها لغير ذلك مما يباشرونه خارج هذه الأعمال، وإلا كانت المخاصمة سبيلاً لحصار القاضى فى كل ما يتصل بتصرفاته وينقلب القصد من الحماية إلى الاستباحة فيضيع الأمان وينمحى استقلال القضاء، مما حدا بالمشرع إلى تقرير الالتزام بأحكام تلك الإجراءات والقواعد الخاصة بدعوى المخاصمة، ومن بينها أن الفصل فيها يتم على مرحلتين؛ أولاهما: مرحلة الفصل فى تعلق أوجه المخاصمة بالدعوى وجواز قبولها، وثانيتهما: مرحلة الفصل فى موضوعها - إذا قُضى بجواز المخاصمة - إما برفضها، أو بصحتها ومن ثم؛ بطلان تصرف القاضى والحكم عليه بالتعويضات والمصاريف. وقد حدد المشرع حالات وأسباب المخاصمة على سبيل الحصر، ومن بينها ارتكاب الغش أو الخطأ المهنى الجسيم، والمقصود بالغش هو ارتكاب القاضى الظلم عن قصد بدافع المصلحة الشخصية أو الكراهية لأحد الخصوم أو محاباة الطرف الآخر، أما الخطأ المهنى الجسيم فهو الخطأ الذى ينطوى على أقصى ما يمكن تصوره من الإهمال فى أداء الواجب، ويكون ارتكابه نتيجة غلط فادح ما كان لينساق إليه لو اهتم بواجبه الاهتمام العادى، أو يكون بسبب إهماله إهمالاً مفرطًا يعبر عن خطأ فاحش مثل الجهل الفاضح بالمبادئ الأساسية للقانون، ومن ثم لا يُعتبر خطأ مهنيًا جسيمًا فهم القاضى للقانون على نحو معين ولو خالف فيه إجماع الشراح والفقهاء، ولا تقديره لواقعة معينة أو إساءة الاستنتاج أو الخطأ فى استخلاص الوقائع أو تفسير القانون أو قصور الأسباب، وعليه يخرج من نطاق هذا الخطأ كل رأى أو تطبيق قانونى يخلص إليه القاضى بعد إمعان النظر والاجتهاد فى استنباط الحلول للمسألة القانونية المطروحة ولو خالف فى ذلك أحكام القضاء وآراء الفقهاء. وبذلك يكون المشرع قد وازن بين حق القاضى فى توفير الحماية له؛ فلا يتحسّب فى قضائه سوى وجه الحق ولا يهتز وجدانه من مظنة النيل منه، وبين حق المتقاضى فى الاطمئنان إلى أن قاضيه مقيد بالعدل فى حكمه، فإن جنح عنه لم تُغلق الأبواب فى وجهه، بل له أن يسلك طريق الخصومة التى يدين بها قضاءه ويبطل أثره، وكل ما تقدم يجد حده فى أن القضاء ولاية تقدير وأمانة تقرير، وأن مجرد الخلاف أو الخطأ لا يسقط بهما منطق العدل وإنما يسقطه الجور والانحراف فى القصد، ولهذا رتب المشرع على القضاء بعدم جواز المخاصمة أو رفضها الحكم على طالب المخاصمة بالغرامة ومصادرة الكفالة مع التعويضات إن كان لها وجه، وفى مقابل ذلك رتب على القضاء بصحة المخاصمة الحكم على القاضى المخاصم ببطلان تصرفه وإلزامه بالتعويضات والمصاريف.
وحيث إن المقرر فى قضاء هذه المحكمة أن مؤدى نص المادة (495) من قانون المرافعات المدنية والتجارية أن المشرع قد أوجب رفع دعوى المخاصمة بتقرير فى قلم كتاب المحكمة، يشتمل على بيان أوجه المخاصمة وأدلتها، وأن تودع معه الأوراق المؤيدة لها، وتُنظر الدعوى فى غرفة مشورة بعد تبليغ القاضى المُخاصم بصورة من التقرير حتى يُتاح له أن يتبين كافة أوجهها وأدلتها، ليتمكن على ضوء ذلك من إبداء رده وملاحظاته وتعقيبه عليها، كما يتضح بجلاء من نص المادة (496) من القانون ذاته أن الفصل فى دعوى المخاصمة فى مرحلتها الأولى، وهى مرحلة الفصل فى تعلق أوجه المخاصمة بالدعوى وجواز قبولها، لا يكون إلا على أساس ما يرد فى تقرير المخاصمة والأوراق المودعة معه، ولا يجوز بالتالى فى هذه المرحلة إبداء طلبات جديدة أو استحداث أوجه مخاصمة لم يتضمنها التقرير، أو تقديم أو قبول أوراق أو مستندات غير التى أودعت معه؛ وإلا تعين الالتفات عن أوجه المخاصمة الجديدة التى لم يسبق إبداؤها بتقرير المخاصمة على أساس عدم اتصالها بالمحكمة بالطريق الذى رسمته أحكام قانون المرافعات المدنية والتجارية على النحو السالف البيان.
وحيث إن قضاء المحكمة الدستورية العليا قد جرى على أن مبدأ المساواة أمام القانون يتعين تطبيقه على المواطنين كافةً، باعتباره أساس العدل والحرية والسلام الاجتماعى، وعلى تقدير أن الغاية التى يستهدفها تتمثل أصلاً فى صون حقوق المواطنين وحرياتهم فى مواجهة صور التمييز التى تنال منها أو تقيد ممارستها، وأضحى هذا المبدأ - فى جوهره - وسيلة لتقرير الحماية القانونية المتكافئة التى لا يقتصر نطاق تطبيقها على الحقوق والحريات المنصوص عليها فى الدستور، بل يمتد مجال إعمالها كذلك إلى تلك التى كفلها المشرع للمواطنين فى حدود سلطته التقديرية، وعلى ضوء ما يرتأيه محققًا للصالح العام. إذ كان ذلك، وكان من المقرر أيضًا أن صور التمييز المجافية للدستور،وإن تعذر حصرها، إلا أن قوامها كل تفرقة أو تقييد أو تفضيل أو استبعاد ينال بصورة تحكمية من الحقوق والحريات التى كفلها الدستور أو القانون، وذلك سواء بإنكار أصل وجودها أو تعطيل أو انتقاص آثارها بما يحول دون مباشرتها على قدم المساواة الكاملة بين المؤهلين للانتفاع بها، بما مؤداه أن التمييز المنهى عنه دستوريًّا هو ما يكون تحكميًا، ذلك أن كل تنظيم تشريعى لا يعتبر مقصودًا لذاته، بل لتحقيق أغراض بعينها يُعتبر هذا التنظيم ملبيًا لها، وتعكس مشروعية هذه الأغراض إطارًا للمصلحة العامة التى يسعى المشرع لبلوغها متخذًا من القواعد القانونية التى يقوم عليها هذا التنظيم سبيلاً إليها. إذ إن ما يصون مبدأ المساواة ولا ينقض محتواه؛ هو ذلك التنظيم الذى يقيم تقسيمًا تشريعيًّا ترتبط فيه النصوص القانونية التى يضمها بالأغراض المشروعة التى يتوخاها، فإذا قام الدليل على انفصال هذه النصوص عن أهدافها، أو كان اتصال الوسائل بالمقاصد واهيًا، كان التمييز انفلاتًا وعسفًا، فلا يكون مشروعًا دستوريًّا.
وحيث إن الأصل فى سلطة المشرع فى تنظيمه لحق التقاضى - وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة - أنها سلطة تقديرية، جوهرها المفاضلة التى يجريها بين البدائل المختلفة التى تتصل بالموضوع محل التنظيم لاختيار أنسبها لفحواه، وأحراها بتحقيق الأغراض التى يتوخاها، وأكفلها للوفاء بأكثر المصالح وزنًا، وليس من قيد على مباشرة المشرع لهذه السلطة إلا أن يكون الدستور ذاته قد فرض فى شأن مباشرتها ضوابط محددة تعتبر تخومًا لها ينبغى التزامها، وفى إطار قيامه بهذا التنظيم لا يتقيد المشرع بإتباع أشكال جامدة لا يريم عنها، تفرغ قوالبها فى صورة صماء لا تبديل فيها، بل يجوز له أن يغاير فيما بينها، وأن يقدر لكل حال ما يناسبها، على ضوء مفاهيم متطورة تقتضيه االأوضاع التى يباشر الحق فى التقاضى فى نطاقها، وبما لا يصل إلى إهداره، ليظل هذا التنظيم مرنًا، فلا يكون إفراطًا يطلق الخصومة القضائية من عقالها انحرافًا بها عن أهدافها، ولا تفريطًا مجافيًا لمتطلباتها، بل بين هذين الأمرين قوامًا، التزامًا بمقاصدها، باعتبارها شكلاً للحماية القضائية للحق فى صورتها الأكثر اعتدالاً.
وحيث إنه من المقرر كذلك - فى قضاء هذه المحكمة - أن لكل مواطن حق اللجوء إلى قاض يكون بالنظر إلى طبيعة الخصومة القضائية، وعلى ضوء مختلف العناصر التى لابستها، مهيأ للفصل فيها، وهذا الحق مخول للناس جميعًا، فلا يتمايزون فيما بينهم فى ذلك، وإنما تتكافأ مراكزهم القانونية فى مجال سعيهم لرد العدوان على حقوقهم، فلا يكون الانتفاع بهذا الحق مقصورًا على بعضهم، ولا منصرفًا إلى أحوال بذاتها ينحصر فيها،ولا محملاً بعوائق تخص نفرًا من المتقاضين دون غيرهم، بل يتعين أن يكون النفاذ إلى ذلك الحق، منضبطًا وفق أسس موضوعية لا تمييز فيها، وفى إطار من القيود التى يقتضيها تنظيمه، ولا تصل فى مداها إلى حد مصادرته.
وحيث إن حق الدفاع أصالةً أو بالوكالة قد كفله الدستور، باعتبار أن ضمانة الدفاع لا يمكن فصلها أو عزلها عن حق التقاضى، ذلك أنهما يتكاملان ويعملان معًا فى دائرة الترضية القضائية التى يُعتبر اجتناؤها غاية نهائية للخصومة القضائية، فلا قيمة لحق التقاضى ما لم يكن متساندًا لضمانة الدفاع، مؤكدًا لأبعادها، عاملاً من أجل إنفاذ مقتضاها. كذلك لا قيمة لضمانة الدفاع بعيدًا عن حق النفاذ إلى القضاء، وإلا كان القول بها وإعمالها واقعًا وراء جدران صامتة؛ يؤيد ذلك أن الحقوق التى يكفلها الدستور أو القانون تتجرد من قيمتها العملية إذا كان من يطلبها عاجزًا عن بلوغها من خلال حق التقاضى، أو كان الخصوم الذين تتعارض مصالحهم بشأنها لا يتماثلون فيما بينهم فى أسلحتهم التى يشرعونها لاقتضائها. ولا يعدو أن يكون إنكار ضمانة الدفاع أو انتقاصها إخلالاً بالحق المقرر دستوريًا لكل مواطن فى مجال اللجوء إلى قاضيه الطبيعى، وليس النزول عليها إلا توكيدًا للحق فى الحياة والحرية، حائلاً دون اقتحام حدودهما، وذلك سواء أكان إنكار ضمانة الدفاع أو تقييدها متصلاً بحق كل شخص فى أن يعرض بنفسه وجهة نظره فى شأن الواقعة محل التداعى، وأن يبين حكم القانون بصددها، أم كان منسحبًا إلى الحق فى أن يقيم باختياره محاميًا يطمئن إليه لخبرته وملكاته، ويراه - لثقته فيه - أقدر على تأمين المصالح التى يتوخى حمايتها، ليكون الدفاع عنها فعالاً، محيطًا بالخصومة القضائية التى تتناولها، نائيًا بالانحدار بمتطلباتها إلى ما دون مستوياتها الموضوعية التى يمليها التبصر وتفرضها العناية الواجبة.
وحيث إن الدستور القائم قد حرص فى مادتيه (184) و(186) على النص على أن السلطة القضائية مستقلة، وأن القضاة مستقلون غير قابلين للعزل، ولا سلطان عليهم فى عملهم لغير القانون، فدلّ بذلك على حماية استقلال القاضى من ناحية، والحيلولة كذلك دون أن يكون العمل القضائى وليد نزعة شخصية غير متجردة، ومن ثم تكون حيدة القاضى شرطًا لازمًا دستوريًا لضمان ألا يخضع فى عمله لغير سلطان القانون، وذلك على أساس أن طبيعة العمل القضائى تستوجب تحصين عمل القاضى بحسب الأصل، وهو حكم عام لا يُراد به إضافة ميزة شخصية للقاضى، بل يُراد به توفير مناخ من الحرية فى عمله ينأى به عن اتخاذ قراره القضائى فى ظل مخافة المساءلة عنه، أو تهيّب سطوة الخصوم ونفوذهم، وقد استعاض عنها المشرع بأن أوجب على القاضى إيداع المبررات التى ارتكن إليها فى أسباب حكمه أو قراره، وهى تخضع للطعن وفقًا للمنهج الذى نظمه المشرع، وأتاح لمن تضرر منها أن يلجأ إلى الطعن على هذا الحكم أو القرار سالكًا هذه السبل؛ إذ لو كان كل قرار يتخذه القاضى فى دعوى منظورة أمامه يعرضه إلى المساءلة عنه، لما جرؤ قاض على الانتصاف لحق مطروح عليه، بل قعد عن ذلك مخافة تعرضه للمساءلة القضائية عنه.
وحيث إن المشرع قد تغيا من النصين المطعون فيهما تحقيق التوازن بين أمرين؛ أولهما: ألا تكون مخاصمة القضاة مدخلاً إلى التشهير بهم دون حق، وإيذاء مشاعرهم إعناتًا، أو التهوين من قدرهم عدوانًا، أو لمنعهم من نظر قضايا بذواتها توقيًا للفصل فيها كيدًا ولددًا، وثانيهما: صون حق المتقاضى بضمان ألا يفصل فى الدعوى قضاة داخل عملهم غش أو تدليس أو غدر أو خطأ مهنى جسيم؛ مما يؤدى إلى ممالأة أحد أطرافها والتأثير بالتالى فى حيدتهم، فلا يكون عملهم انصرافًا إلى تطبيق حكم القانون فى شأنها، بل تحريفًا لمحتواه، ومن ثم أجاز المشرع مخاصمتهم سبيلاً لإبطال ما شاب عملهم من جور وانحراف فى القصد عن منطق العدل لأحد الأسباب المشار إليها، وليحول دونهم وموالاة نظر الدعوى التى قام سبب مخاصمتهم بمناسبتها، وكان حتمًا مقضيًا؛تبعًا لذلك، أن يكفل المشرع، فى إطار التوفيق بين هذين الاعتبارين وبما يوازن بينهما، تنظيمًا لدعوى المخاصمة لا يجاوز الحدود التى ينبغى أن تُباشر فى نطاقها،ولا يكون موطئًا إلى تعطيل الفصل فى النزاع الأصلى إذا كان قيد النظر، أو نكايةً فى قضاته بعد الفصل فيه، وفى سبيل ذلك؛ عمد المشرع إلى إرساء هذا التوازن بتنظيمه إجراءات دعوى المخاصمة عن طريق رفعها بتقرير فى قلم كتاب المحكمة، يشتمل على بيان أوجه المخاصمة وأدلتها، وأن تودع معه الأوراق المؤيدة لها، وتُنظر الدعوى فى غرفة مشورة بعد تبليغ القاضى المُخاصم بصورة من التقرير حتى يُتاح له أن يتبين كافةأوجهها وأدلتها، ليتمكن على ضوء ذلك من إبداء رده وملاحظاته وتعقيبه عليها، كماحرص المشرع على ألا يكون الفصل فى دعوى المخاصمة فى مرحلتها الأولى، وهى مرحلة الفصل فى تعلق أوجه المخاصمة بالدعوى وجواز قبولها، إلا على أساس ما يرد فى تقرير المخاصمة والأوراق المودعة معه، ولا يجوز بالتالى فى هذه المرحلة إبداء طلبات جديدة أو استحداث أوجه مخاصمة لم يتضمنها التقرير، أو تقديم أو قبول أوراق أو مستندات غير التى أودعت معه؛ وإلا تعين الالتفات عن أوجه المخاصمة الجديدة التى لم يسبق إبداؤها بتقرير المخاصمة على أساس عدم اتصالها بالمحكمة بالطريق الذى رسمته أحكام قانون المرافعات المدنية والتجارية على النحو السالف البيان، مما يمثل، فى مجموعه، قاعدة موضوعية تتفق مع الطبيعة الخاصة لدعوى المخاصمة؛ تغيا بها المشرع ألا تكون هذه الدعوى وسيلة للكيد وترويع القضاة لفترة قد تطول لحين إعداد الدليل أمام المحكمة، وحتى لا يقدم على إقامتها إلا من تتوافر تحت أيديهم أسباب حقيقية وأدلة كافية على ما يدعونه، كى لا يطول أمد المرحلة الأولى لدعوى المخاصمة، وهى مرحلة استكشاف جدية الدعوى، فتنال من حجية العمل القضائى المُخاصم لأجله وتزعزع من استقراره، مما يتناقض مع الطبيعة الخاصة لهذه الدعوى وما تستلزمه من وجوب سرعة الفصل فيها؛ حتى لا تظل سيفًا مسلطًا على القاضى المُخاصم فى يد رافع الدعوى إذا ما تراخى، سواء عن عمد أو إهمال، فى إعداد الأدلة لزمن قد يطول؛ مما مؤداه اهتزاز الشعور العام بالعدالة بغير مقتض ومن ثم فإن النصين المطعون فيها؛ وإن مايزا فى هذا الصدد بين طرفى الخصومة الخاضعين لأحكامهما، إلا أن هذا التمييز؛ وقد شُيد على أساس القاعدة الموضوعية السالفة البيان، فإنه ينهض تمييزًا مبررًا غير قائم على أساس تحكمى.
وحيث إنه لما كان ما تقدم، وكان المشرع بتقريره النصين المطعون فيهما، قد أعمل سلطته التقديرية فى شأن التنظيم الإجرائى للخصومة فى دعوى مخاصمة القضاة وأعضاء النيابة، بأن وضع للحماية القضائية للمتقاضين فيها نظامًا للتداعى يقوم على أساس نوع المنازعة، مما مؤداه ربط هذا التنظيم الإجرائى للخصومة فى مجمله بالغايات التى استهدفها المشرع من هذا التنظيم، والتى تتمثل فى تحقيق التوازن بين طرفيها – على النحو السالف البيان - عن طريق تنظيم إجراءات تقديم الأوراق والمستندات المتضمنة الأدلة التى تقوم عليها دعوى المخاصمة وما يستلزمه ذلك من حسم المنازعة فيها بالسرعة التى تتفق مع الطبيعة الخاصة لها التى يُعتبر الزمن عنصرًا جوهريًّا فى حسمها، وعاملاً أساسيًّا لاستقرار المراكز القانونية المتعلقة بها، مع عدم الإخلال - فى الوقت ذاته - بكفالة الضمانات الأساسية لكل من حق التقاضى وحق الدفاع، ولا بأركانهما التى كفلها الدستور، بما يكفل لأى من المتقاضين عرض منازعته ودفاعه ودفوعه على قاضيه الطبيعى، متمتعًا بفرص متكافئة فى ممارسة حقه فى الدفاع الذى كفله له الدستور بنص المادة (98) منه، بما يجعل للخصومة فى هذا النوع من المنازعات حلاً منصفًا يرد العدوان على الحقوق المدعى بها فيها، وفق أسس موضوعية لا تقيم فى مجال تطبيقها تمييزًا منهيًّا عنه بين المخاطبين بها، مما يتفق مع سلطة المشرع فى المفاضلة بين أكثر من نمط لتنظيم إجراءات التقاضى، دون التقيد بقالب جامد يحكمإطار هذا التنظيم، ومن ثم تكون المغايرة التى اتبعها المشرع فى تنظيمه لإجراءات التقاضى فى دعوى المخاصمة وفقًا للنصين المطعون فيهما، على أساس اختلاف المركز القانونى لكل من طرفيها وقصد المشرع فى إحداث التوازن بينهما على النحو الذى يتفق مع طبيعتها، قائمة على أسس مبررة تستند إلى واقع مختلف يرتبط بالأغراض المشروعة التى توخاها، وبالتالى تنتفى قالة الإخلال بمبدأ المساواة أو تقييد حق الدفاع.
وحيث إنه متى كان ما تقدم، فإن النصين المطعون فيهما لا يخالفان أحكام المادتين (53 و98) من الدستور، كما لا يخالفان أية أحكام أخرى فيه، مما يتعين معه القضاء برفض هذه الدعوى.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة برفض الدعوى، وبمصادرة الكفالة، وألزمت المدعى المصروفات ومبلغ مائتى جنيه مقابل أتعاب المحاماة.

أمين السر رئيس المحكمة