الجريدة الرسمية - العدد 39 (مكرر) - السنة التاسعة والخمسون
2 المحرم سنة 1438هـ، الموافق 3 أكتوبر سنة 2016م

باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا

بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت الرابع والعشرين من سبتمبر سنة ٢٠١٦م، الموافق الثانى والعشرين من ذى الحجة سنة ١٤٣٧هـ.
برئاسة السيد المستشار/ عبد الوهاب عبد الرازق - رئيس المحكمة.
وعضوية السادة المستشارين: الدكتور حنفى على جبالى والسيد عبد المنعم حشيش ومحمد خيرى طه النجار وبولس فهمى إسكندر والدكتور حمدان حسن فهمى ومحمود محمد غنيم - نواب رئيس المحكمة.
وحضور السيد المستشار الدكتور/ طارق عبد الجواد شبل - رئيس هيئة المفوضين.
وحضور السيد/ محمد ناجى عبد السميع - أمين السر.

أصدرت الحكم الآتى

فى القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 84 لسنة 35 قضائية "دستورية".

المقامة من

السيد رئيس مجلس الإدارة والعضو المنتدب لشركة مصر/ إيران للغزل والنسيج.

ضـد

1 - السيد رئيس الجمهورية.
2 - السيد رئيس مجلس الوزراء.
3 - السيد وزير العدل.
4 - السيد/ طه محمد عبد الله.


الإجراءات

بتاريخ الخامس والعشرين من مايو سنة 2013، أودعت الشركة المدعية صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة الدستورية العليا، طلبًا للحكم بعدم دستورية نص المادة (248) من قانون المرافعات المدنية والتجارية، المستبدلة بالقانون رقم 76 لسنة 2007.
وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرتين بدفاعها, طلبت فيهما الحكم أصليًا بعدم قبول الدعوى لانتفاء المصلحة، واحتياطيًا برفض الدعوى.
وقدمت الشركة المدعية مذكرة، صممت فيها على الطلبات.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرًا برأيها.
ونُظرت الدعوى، على النحو المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.


المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع تتحصل - على ما يتبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - فى أن المدعى عليه الأخير كان قد أقام الدعوى رقم 378 لسنة 2007 مدنى كلى، أمام محكمة منيا القمح الابتدائية، ضد الشركة المدعية، طالبًا الحكم بإلزامها بأن تودع له مبلغ مائة ألف جنيه، تعويضًا ماديًا وأدبيًا، عن الأضرار التى لحقت به أثناء عمله، الناجمة عن تقصير الشركة وإهمالها فى توفير وسائل السلامة والصحة المهنية، مما أدى إلى إصابته بعجز جزئى مستديم نتيجة مرضه بنوبات صرع وربو شعبى، ترتب عليها إنهاء عمله بالشركة، وعجزه عن الالتحاق بعمل آخر. وأثناء نظر الدعوى قام بإدخال خصوم جدد فيها، للحكم عليهم متضامنين مع الشركة المدعية، بأداء التعويض المطالب به. وأقامت الشركة المدعية، دعوى ضمان فرعية، ضد الشركة القابضة للقطن والغزل والنسيج والملابس الجاهزة، للحكم عليها بما قد يحكم به ضدها فى الدعوى الأصلية. وبجلسة 27/ 3/ 2008، قضت المحكمة فى الدعوى الفرعية بإلزام الشركة المدعى عليها فيها بأداء قيمة ما يحكم به قضائيًا على الشركة المدعية فرعيًا، وفى الدعوى الأصلية بإلزام الشركة المدعى عليها فيها والخصوم المدخلين بأن يؤدوا للمدعى مبلغ خمسة آلاف جنيه كتعويض مدنى وأدبى. ولم يصادف هذا القضاء قبول أطراف الدعوى والخصوم المدخلين، فطعنت عليه الشركة المدعية - فى الدعوى المعروضة - بالاستئناف رقم 3542 لسنة 51 قضائية، أمام محكمة استئناف المنصورة "مأمورية الزقازيق"، وطعن عليه باقى الخصوم، أمام المحكمة ذاتها، بالاستئنافات أرقام 3543 و3594 لسنة 51 قضائية، و2594 لسنة 52 قضائية. وقررت المحكمة ضم تلك الاستئنافات للاستئناف الأول للارتباط وليصدر فيها حكم واحد. وبجلسة 17/ 11/ 2012، قدم محامى الشركة المدعية مذكرة، ضمنها دفعًا بعدم دستورية نص المادة (248) من قانون المرافعات المدنية والتجارية، بعد استبدالها بالقانون رقم 76 لسنة 2007. وإذ قدرت محكمة الاستئناف جدية هذا الدفع، وصرحت للشركة المدعية بجلسة 16/ 4/ 2013 بإقامة الدعوى الدستورية، فقد أقامتها.
وحيث إن المادة (248) من قانون المرافعات المدنية والتجارية الصادر بالقانون رقم 13 لسنة 1968، بعد استبدالها بموجب المادة الثانية من القانون رقم 76 لسنة 2007، تنص على أن: "للخصوم أن يطعنوا أمام محكمة النقض فى الأحكام الصادرة من محاكم الاستئناف إذا كانت قيمة الدعوى تجاوز مائة ألف جنيه، أو كانت غير مقدرة القيمة، وذلك فى الأحوال الآتية: 1 - .................. 2 -..................".
وحيث إن المصلحة الشخصية المباشرة - وهى شرط لقبول الدعوى الدستورية - مناطها - وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة - أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة فى الدعوى الموضوعية، وذلك بأن يكون الفصل فى المسألة الدستورية لازمًا للفصل فى الطلبات المرتبطة بها والمطروحة على محكمة الموضوع، ويكفى لتحقق شرط المصلحة أن يكون المدعى قد أضير من جراء تطبيق النص القانونى الذى يدعى مخالفته للدستور، أو كان إضرار هذا النص به محتملاً. لما كان ذلك، وكان صدر المادة (248) من قانون المرافعات المدنية والتجارية المشار إليه، ينص على أن "للخصوم أن يطعنوا أمام محكمة النقض فى الأحكام الصادرة من محاكم الاستئناف إذا كانت قيمة الدعوى تجاوز مائة ألف جنيه....."، وكانت قيمة الدعوى الموضوعية لا تجاوز مائة ألف جنيه، ومن ثم تتوافر للشركة المدعية مصلحة شخصية محتملة فى الطعن على دستورية هذا النص، فى ذلك النطاق وحدة، حتى ينفتح لها طريق الطعن أمام محكمة النقض إذا ما قضى لغير صالحها من محكمة الاستئناف، ويكون الدفع المبدى من هيئة قضايا الدولة فى هذا الشأن قد ورد على غير محل، جديرًا بالالتفات عنه.
وحيث إن الشركة المدعية تنهى على القيد الذى استحدثه القانون رقم 76 لسنة 2007 فى النص التشريعى المطعون فيه، محددًا نطاقًا على النحو السالف بيانه، باشتراطه أن تجاوز قيمة الدعوى مائة ألف جنيه، حتى يتاح للخصوم، فى الدعاوى المقدرة القيمة، الطعن أمام محكمة النقض فى الأحكام الصادرة من محاكم الاستئناف، مخالفته لنصوص المواد (8، 9، 33، 74، 75، 78، 80، 81، 168، 169، 170، 172) من دستور سنة 2012 - الذى أقيمت الدعوى الدستورية فى ظل العمل بأحكامه - وذلك على سند من أن هذا النص يحرم الخصوم فى تلك الدعاوى من درجة من درجات التقاضى، ويحول بينهم وبين اللجوء إلى محكمة النقض، باعتبارها القاضى الطبيعى لنظر الدعوى، لتصويب ما قد يشوب الأحكام من عيوب قانونية، ويحرمهم بالتالى من الحصول على الترضية القضائية، ويخل بحقى التقاضى والدفاع، ويعيق تحقيق العدالة. ومن جانب آخر، فقد أوجد النص المطعون فيه تمييزًا تحكميًا غير مبرر، بين الخصوم فى الدعاوى مقدرة القيمة، ونظرائهم فى الدعاوى غير مقدرة القيمة، الذين أجاز لهم الطعن أمام محكمة النقض، دون قيد، رغم وحدة طبيعة الدعوى فى الحالتين، وتماثل المراكز القانونية بين الفريقين، بما يخل بمبادئ المساواة وتكافؤ الفرص وسيادة القانون. وفضلاً عن ذلك، فقد قلص النص المطعون فيه من اختصاص محكمة النقض، حال أنها تقوم بالدور ذاته المنوط بالمحكمة الإدارية العليا، بما يمثل افتئاتًا على استقلال السلطة القضائية، وحصانة استقلال القضاة، وجميعها من الحقوق التى لا يجوز الانتقاص منها أو إهدارها.
وحيث إنه من المقرر فى قضاء المحكمة الدستورية العليا أن الرقابة الدستورية على القوانين واللوائح، من حيث مطابقتها للقواعد الموضوعية التى تضمنها الدستور، إنما تخضع لأحكام الدستور القائم، دون غيره، ذلك أن هذه الرقابة إنما تستهدف أصلاً صون هذا الدستور وحمايته من الخروج على أحكامه، باعتبار أن نصوصه تمثل القواعد والأصول التى يقوم عليها نظام الحكم، ولها مقام الصدارة بين قواعد النظام العام، التى يتعين التزامها ومراعاتها، وإهدار ما يخالفها من التشريعات، لكونها أسمى القواعد الآمرة. ومن ثم، تتولى المحكمة رقابتها الدستورية على النص التشريعى المطعون فيه، من خلال أحكام دستور سنة 2014، باعتباره الوثيقة الدستورية السارية.
وحيث إن الدستور القائم لم يأت بما يخالف ما أوردته الشركة المدعية من المبادئ الدستورية الحاكمة للنص التشريعى المطعون عليه فى دستور سنة 2012، ذلك أن المواد (8، 9، 33) بشأن العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، والمواد (74، 75، 78) التى تناولت سيادة القانون فى الدولة وكفالة حقى التقاضى والدفاع، والمادة (81) الخاصة بعدم جواز الانتقاص من الحقوق والحريات اللصيقة بشخص المواطن، والمواد (168، 169، 179، 172) المتعلقة باستقلال السلطة القضائية وحصانة واستقلال القضاة، واختصاصات محاكم السلطة القضائية، التى وردت فى دستور سنة 2012، تطابق فى مجملها الأحكام الواردة فى المواد (4، 9، 53، 92، 94، 97، 184، 185، 186، 188) من الدستور القائم.
وحيث إن الأصل فى سلطة المشرع فى مجال تنظيم الحقوق - وعلى ما جرى به قضاء المحكمة الدستورية العليا - أنها سلطة تقديرية ما لم يقيدها الدستور بضوابط معينة تعتبر حدودًا لها، وفواصل لا يجوز تجاوزها. وعلى ذلك، فليس ثمة تناقض بين كفالة المادة (97) من الدستور القائم لحق التقاضى، كحق دستورى أصيل، وبين تنظيمه تشريعيًا، بشرط ألا يتخذ المشرع هذا التنظيم وسيلة إلى حظر التقاضى أو إهداره، مع مراعاة أن حق التقاضى فى ذاته ليس غاية، وإنما هو وسيلة للوصول إلى الترضية القضائية، بإعطاء كل ذى حق حقه، من خلال قواعد محددة لا تخل بضمانات التقاضى التى كفلها الدستور، وأن ضمان الحق فى الخصومة القضائية، لا يكون إلا بوصفها طريقًا وحيدًا لمباشرة حق التقاضى، الذى يُعد أمرًا لازمًا لإنفاذ سيادة القانون فى الدولة - وفقًا لنص الفقرة الأولى من المادة (94) من الدستور - لكونه محور نظامها القانونى، وأساس شرعيتها. وإذ كان الدستور، بموجب نص الفقرة الثانية من المادة (94)، قد أقام حصانة القضاء واستقلاله، ضمانين أساسيين لحماية حقوق الأفراد وحرياتهم، فقد أضحى لازمًا - وحق التقاضى هو المدخل إلى هذه الحماية - أن يكون هذا الحق مكفولاً بنص صريح فى الدستور، كى لا تنعزل حقوق الأفراد وحرياتهم عن وسائل حمايتها، بل يكون معززًا بها، وتقارنها لضمان فاعليتها.
وحيث إن ما نصت عليه المواد (4، 53، 97، 98) من الدستور القائم الصادر سنة 2014 - وتردد حكمها فى الدساتير المصرية السابقة - من أن المواطنين لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والحريات العامة، وأن حق التقاضى من الحقوق العامة المكفولة للكافة، وأن حق الدفاع مكفول, مؤداه - وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة - أن الناس كافة لا يتمايزون فيما بينهم فى مجال حقهم فى اللجوء إلى قاضيهم الطبيعى؛ ولا فى نطاق القواعد الإجرائية والموضوعية التى تحكم الخصومة عينها؛ ولا فى فعالية ضمانه الدفاع للحقوق التى يطلبونها؛ ولا فى اقتضائها، وفق مقاييس واحدة عن توافر شروط طلبها؛ ولا فى طرق الطعن التى تنظمها، بل يجل أن يكون للحقوق ذاتها قواعد موحدة، سواء فى مجال التداعى بشأنها، أو الدفاع عنها، أو استئدائها، أو الطعن فى الأحكام الصادرة فصلاً فيها. ولا يجوز بالتالى أن يعطل المشرع إعمال هذه القواعد فى شأن فئة بذاتها من المواطنين، ولا أن يقلص دور الخصومة القضائية التى يعتبر ضمان الحق فيها والنفاذ إليها طريقًا وحيدًا لمباشرة حق التقاضى، ولا أن يجرد هذه الخصومة من الترضية القضائية، التى يعتبر إهدارها أو تهوينها إخلالاً بالحماية التى يكفلها الدستور القائم للحقوق جميعها، وأكد عليها بما نص عليه فى المادة (92) منه، بأن "الحقوق والحريات اللصيقة بشخص المواطن لا تقبل تعطيلاً ولا انتقاصًا، ولا يجوز لأى قانون ينظم ممارسة الحقوق والحريات أن يقيدها بما يمس أصلها وجوهرها".
وحيث إن المساواة التى يوجبها إعمال مبدأ تكافؤ الفرص - وفقًا لنصوص المواد (4، 9، 53) من الدستور القائم، والتى تردد حكمها فى الدساتير المصرية السابقة - تتحقق بتوافر شرطى العموم والتجريد فى التشريعات المنظمة للحقوق، ولكنها ليست مساواة حسابية، ذلك أن المشرع يملك، بسلطته التقديرية ولمقتضيات الصالح العام، وضع شروط تحدد بها المراكز القانونية التى يتساوى بها الأفراد أمام القانون، بحيث إذا توافرت هذه الشروط فى طائفة من الأفراد، وجب إعمال المساواة بينهم لتماثل ظروفهم ومراكزهم القانونية. وإذا اختلفت هذه الظروف، بأن توافرت الشروط فى البعض دون البعض الآخر، انتفى مناطق التسوية بينهم، وكان لمن توافرت فيهم الشروط - دون سواهم - أن يمارسوا الحقوق التى كفلها المشرع لهم، ولا يُعد التجاء المشرع إلى أسلوب تحديد شروط موضوعية يقتضيها الصالح العام للتمتع بالحقوق، إخلالاً بشرطى العموم والتجريد فى القاعدة القانونية، وذلك لأنه إنما يخاطب الكافة من خلال هذه الشروط.
وحيث إن الطعن بالنقض، باعتباره طريقًا غير عادى للطعن فى الأحكام، لا يُعد امتدادًا للخصومة ذاتها التى كانت مرددة بين أطرافها أمام محكمة الموضوع، ولا يُعد درجة من درجات التقاضى حتى يصح أن يكون للخصوم فيه من الحقوق والمزايا ما كان لهم أمام محكمة الموضوع بدرجتيها، من تقديم طلبات وأوجه دفاع جديدة لم يسبق عرضها من قبل، وإنما يطرح الطعن بالنقض خصومة أخرى، تتمثل فى البحث حول صحة تطبيق القانون على الوقائع التى أكدها الحكم المطعون فيه، وفى أحوال مبينة بيان حصر. وعلى ذلك، فخصوصية الطعن بالنقض لها ذاتية مختلفة عن الخصومات التى تنظرها محكمة الموضوع؛ إذ هى لا تهدف - بحسب الأصل - إلى تقرير حق أو نفيه، أو إلى إحلال حكم جديد محل الحكم المطعون فيه، بل يقتصر الأمر فيها على بحث مدى توافق هذا الحكم مع التطبيق الصحيح للقانون، ومعالجة ما يكون قد شابه من عيوب قانونية.
وحيث إن النص التشريعى المطعون فيه قد أجاز للخصوم الطعن أمام محكمة النقض فى الأحكام الصادرة من محاكم الاستئناف فى الدعاوى التى تجاوز قيمتها مائة ألف جنيه، وكذا فى الدعاوى غير المقدرة القيمة، فى الأحوال التى عددها حصرًا. وقد جاء بالمذكرة الإيضاحية لمشروع القانون رقم 76 لسنة 2007 بتعديل بعض أحكام قانون المرافعات المدنية والتجارية, فى خصوص نص المادة (248) المطعون فيها، أنه "من الحقائق التى لا تحتمل أى جدل - حسبما تؤكد الإحصائيات - أن الأحكام المنظمة لحالات وإجراءات الطعن بالنقض قد أدت إلى إثقال تلك المحكمة العليا بعشرات الآلاف من الطعون، وأن كل الجهد المبذول منذ سنوات عديدة، وإن أسفر عن الفصل فى آلاف من تلك الطعون، إلا أن نهر الطعن يتدفق بآلاف أخرى، وهكذا الحال إلى مالا نهاية، لذلك فقد بات مُلحًّا مراجعة الأحكام المنظمة لحالات وإجراءات الطعن بالنقض، وفقًا لرؤية تستهدف التخفيف عن المحكمة العليا، وفى الوقت ذاته تحقيق الهدف من إقامة نظام الطعن بالنقض، وهو توحيد المبادئ القانونية فيما يعرض على القضاء من مختلف أنواع القضايا". وجاء بتلك المذكرة الإيضاحية، فى شأن تحديد نصاب الطعن بالنقض "أن المشرع عمد فى القانون رقم 23 لسنة 1992 والقانون رقم 18 لسنة 1999، إلى رفع النصاب الانتهائى لمحكمة المواد الجزئية والمحكمة الابتدائية، بهدف تخفيف العبء عن محاكم الاستئناف ومحكمة النقض، إذ يترتب على هذا الرفع تقليل عدد الأحكام القابلة للطعن فيها أمامهما، بيد أن هذا التعديل لا يكفى بذاته لتحقيق الهدف المنشود إن لم يُحدد نصابًا للطعن بالنقض ذاته، اتساقًا مع التوجه العام لقانون المرافعات بعد التعديل المشار إليه، وعلى ذلك، فقد ذهب المشرع إلى وضع نصاب للطعن بالنقض، هو فى الوقت ذاته يمثل نصابًا انتهائيًا لمحاكم الاستئناف، إذ يجعل الحق فى الطعن بالنقض على أحكام محاكم الاستئناف مقصورًا على الدعاوى التى تجاوز قيمتها مائة ألف جنيه، أو الدعاوى غير المقدرة القيمة". إذ كان ذلك، وكانت أحكام النص المطعون فيه - فى ضوء الاعتبارات التى أوردتها المذكرة الإيضاحية المشار إليها - تتعلق بتنظيم إجراءات الطعن أمام محكمة النقض، باعتباره من صميم السلطة التقديرية للمشرع فى تنظيم حق التقاضى، وقد انطوت على قاعدة عامة مجردة فى شأن الطعن أمام محكمة النقض فى الأحكام الصادرة من محاكم الاستئناف فى الدعاوى مقدرة القيمة، باشتراط أن تكون قيمتها تجاوز مائة ألف جنيه، وهو شرط موضوعى يتساوى فيه المتقاضون المتماثلون فى المركز القانونى فى تلك الدعاوى، وقد استهدف المشرع من ذلك تحقيق مصلحة عامة لينتظم التقاضى أمام محكمة النقض، من خلال قاعدة موضوعية منضبطة ومبررة، أوثق اتصالاً بالحقوق التى تتناولها، تتمثل فى النصاب القيمى الذى حدده لإجازة الطعن أمام محكمة النقض، ويحدد فى الوقت ذاته النصاب الانتهائى لأحكام محاكم الاستئناف، وليتسق ذلك مع النهج الذى اتبعه المشرع - كقاعدة عامة - فى شأن اتخاذ قيمة الدعوى معيارًا لتحديد النصاب الانتهائى لأحكام محاكم المواد الجزئية والمحاكم الابتدائية، بما أدخله من تعديلات متعاقبة على المواد (42/ 1، 43، 47/ 1) من قانون المرافعات المدنية والتجارية، بموجب القوانين أرقام 91 لسنة 1980، 23 لسنة 1992، و18 لسنة 1999 و76 لسنة 2007. ومن جانب آخر، فقط اتبع المشرع النهج ذاته فى قانون المحاكم الاقتصادية الصادر بالقانون رقم 120 لسنة 2008، بما نص عليه فى المادتين (6، 11) منه، بقصر الطعن أمام محكمة النقض فى الأحكام الصادرة ابتدائيًا من الدوائر الاستئنافية بالمحاكم الاقتصادية، على الدعاوى التى تجاوز قيمتها خمسة ملايين جنيه، وهو ما ارتأته المحكمة الدستورية العليا - بحكمها الصادر بجلسة 5/ 8/ 2012، فى القضية رقم 56 لسنة 41 قضائية "دستورية" - لا مخالفة فيه لأحكام الدستور، ومن ثم قضت برفض الدعوى، وتبعًا لذلك كله، فإن قالة إخلال النص المطعون عليه، فى الدعوى المعروضة، بحقى التقاضى والدفاع، وإعاقة الحصول على الترضية القضائية، وإخلاله بمبدأ المساواة وتكافؤ الفرص بين المتقاضين، يكون فاقدًا لسنده.
وحيث إنه لا يغير من ذلك ما نعته الشركة المدعية على النص المطعون فيه بأنه يفوت درجة من درجات التقاضى، ويحول دون عرض المنازعة على محكمة النقض، باعتبارها القاضى الطبيعى لنظرها، لتقويم ما قد يعتور حكم محكمة الموضوع من أخطاء قانونية، الأمر الذى يحول دون الحصول على الترضية القضائية، فذلك مردود بما هو مقرر فى قضاء المحكمة الدستورية العليا من أن طرق الطعن فى الأحكام أو انغلاقها إنما يتحدد وفق أسس موضوعية، ولا تعتبر مجرد وسائل إجرائية ينشئها المشرع ليوفر من خلالها سبل تقويم اعوجاجها، بل هى فى واقعها أوثق اتصالاً بالحقوق التى تتناولها، سواء فى مجال إثباتها أو نفيها أو توصيفها، ليكون مصيرها عائدًا إلى انفتاح هذه الطرق أو انغلاقها، وكذلك إلى التمييز بين المواطنين غير المتحدة مراكزهم القانونية، فى مجال النفاذ إلى فرصها.
وحيث إن ما تنعاه الشركة المدعية على النص المطعون فيه بأنه يخل بمبدأ المساواة وتكافؤ الفرص بين المتقاضين فى الدعاوى غير مقدرة القيمة؛ إذ أجاز للفريق الأول - فى كل الأحوال - الطعن أمام محكمة النقض فى الأحكام الصادرة من محاكم الاستئناف، بينما حرم الفريق الثانى من هذا الحق ما لم تكن قيمة الدعوى تجاوز مائة ألف جنيه، رغم وحدة طبيعة الدعوى فى الحالتين، وتماثل المراكز القانونية بين الفريقين، فذلك مردود - وعلى ما جرى به قضاء المحكمة الدستورية العليا - من أن النص فى أحد القوانين على حق الطعن فى طائفة من الأحكام التى تصدرها إحدى جهات القضاء، لا يستوجب دستوريًا - وفقًا لمبدأ المساواة أو تكافؤ الفرص - إتاحة الحق ذاته بالنسبة إلى أحكام أخرى تصدرها تلك الجهة القضائية، ذلك أن تنظيم حق التقاضى، وطرق الطعن فى الأحكام، وجعل التقاضى على درجة واحدة فى بعض المنازعات، وعلى درجتين فى منازعات أخرى، أمر يدخل فى صميم تقدير المشرع، مراعاة لظروف المنازعات التى تختلف كثيرًا عن بعضها البعض، وتحقيقًا للصالح العام. إذ كان ذلك، وكانت ظروف المنازعات فى الدعاوى مقدرة القيمة، تختلف عن تلك التى تطرحها الدعاوى غير المقدرة القيمة، خاصة أن تلك الأخيرة يتعذر وضع معيار موضوعى منضبط بشأن تقدير قيمتها، ومن ثم وضع نصاب انتهائى للحكم الصادر فيها، فإن إجازة الطعن فى الأحكام الصادرة فيها من محاكم الاستئناف أمام محكمة النقض، إطلاقًا، دون الأحكام الصادرة من تلك المحاكم فى الدعاوى مقدرة القيمة، ما لم تكن تجاوز قيمتها مائة ألف جنيه، يكون مبررًا، ويتفق مع الغاية التى سعى المشرع إلى تحقيقها لتنظيم طريق الطعن أمام محكمة النقض، وحتى تتفرغ تلك المحكمة للدور المنوط بها، فى شأن توحيد المبادئ القانونية فيما يعرض على القضاء من القضايا، وهو ما يحقق الصالح العام، ولا إخلال فيه بالمساواة أو تكافؤ الفرص.
وحيث إن ما تنعاه الشركة المدعية على النص المطعون فيه بأنه انتقص من اختصاص محكمة النقض، حال أنها تقوم بالدور ذاته المنوط بالمحكمة الإدارية العليا، فضلاً عن أنه ينال من استقلال السلطة القضائية، ويفتئت على استقلال وحصانة القضاء، ويعيق تحقيق العدالة، فمردود فى وجهه الأول، فضلاً عن اختلاف طبيعة المنازعات التى تعرض على محاكم القضاء العادى، عن تلك التى تعرض على محاكم القضاء الإدارى، وأن لكل من هاتين الجهتين القضائيتين إجراءات تقاضٍ خاصة بها، تتلاءم وطبيعة المنازعات التى تعرض عليها، فإن تنظيم طرق الطعن فى الأحكام يدخل فى السلطة التقديرية التى يملكها المشرع فى تنظيمه لحق التقاضى مراعاة لظروف المنازعات والتى تختلف كثيرًا عن بعضها البعض، بما لا مخالفة فيه لأحكام الدستور. ومردود فى أوجهه الأخرى بأنه متى قامت السلطة التشريعية بتنظيم أوضاع وإجراءات التقاضى فى نوع معين من القضايا، فى إطار السلطة التقديرية المعقودة لها، فإنها لا تكون قد تناولت استقلال السلطة القضائية بالمساس أو أعاقت تحقيق العدالة، أو افتأتت على استقلال القضاء وحصانته.
وحيث إنه متى كان ما تقدم، وكان تبنى المشرع لفكرة قيمة الدعوى، كمعيار لجواز الطعن أمام محكمة النقض فى أحكام محاكم الاستئناف فى الدعاوى التى تجاوز قيمتها مائة ألف جنيه، إنما يقوم على اعتبارات موضوعية عامة منضبطة ومبررة، تتسق والهدف الذى سعى إلى تحقيقه، وفى إطار السلطة التقديرية التى يملكها فى تنظيم حق التقاضى، دون تجاوز منه للقيود والفواصل الدستورية الأخرى، فإن ذلك التنظيم لا يكون قد أخل بحق التقاضى أو حق الدفاع، أو افتأت على استقلال السلطة القضائية وحصانة القضاء واستقلاله، ولا يعيق العدالة والحصول على الترضية القضائية، ولم يخل بالمساواة وتكافؤ الفرص بين المتقاضين، كما أنه لا يخالف أى حكم آخر فى الدستور، مما يتعين معه القضاء برفض هذه الدعوى.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة برفض الدعوى، وبمصادرة الكفالة، وألزمت الشركة المدعية المصروفات ومبلغ مائتى جنيه مقابل أتعاب المحاماة.

أمين السر رئيس المحكمة