الجريدة الرسمية - العدد 3 مكرر (هـ) - السنة الستون
26 ربيع الآخر سنة 1438هـ، الموافق 24 يناير سنة 2017م

باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا

بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت الرابع عشر من يناير سنة 2017م، الموافق السادس عشر من ربيع الآخر سنة 1438هـ.
برئاسة السيد المستشار/ عبد الوهاب عبد الرازق - رئيس المحكمة.
وعضوية السادة المستشارين: السيد عبد المنعم حشيش وسعيد مرعى عمرو ورجب عبد الحكيم سليم والدكتور حمدان حسن فهمى وحاتم حمد بجاتو والدكتور محمد عماد النجار - نواب رئيس المحكمة.
وحضور السيد المستشار الدكتور/ طارق عبد الجواد شبل - رئيس هيئة المفوضين.
وحضور السيد/ محمد ناجى عبد السميع - أمين السر.

أصدرت الحكم الآتى

فى القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 114 لسنة 29 قضائية "دستورية".

المقامة من

1 - رانيا أحمد رشدى المدنى.
2 - هيام محمد عبد العزيز الصردى.

ضـد

1 - رئيس الجمهورية.
2 - رئيس مجلس الوزراء.
3 - رئيس مجلس الشعب.
4 - وزير العدل.
5 - النائب العام.
6 - محمد عبد السلام محمد.


الإجراءات

بتاريخ الثانى عشر من مايو سنة 2007، أودعت المدعيتان صحيفة الدعوى الدستورية المعروضة طلبًا للحكم بعدم دستورية نص المادة (336) من قانون العقوبات.
وأودعت هيئة قضايا الدولة مذكرة بدفاعها، طلبت فيها الحكم أصليًا بعدم اختصاص المحكمة بنظر الدعوى، واحتياطيًا برفضها.
وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرًا برأيها.
ونُظرت الدعوى على النحو المبين بمحاضرها، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.


المحكمة

بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
حيث إن الوقائع تتحصل - على ما يتبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - فى أن النيابة العامة كانت قد قدمت المدعيتين إلى المحاكمة الجنائية فى الجنحة رقم 11748 لسنة 2006 جنح سيدى جابر أمام محكمة جنح سيدى جابر، وطلبت عقابهما بالمادة (336) من قانون العقوبات؛ لأنهما فى غضون شهرى أبريل ومايو سنة 2006 بدائرة قسم سيدى جابر توصلتا إلى الاستيلاء على المنقولات والمبلغ النقدى المبين قيمة ووصفًا بالأوراق، المملوك للمجنى عليه محمد عبد السلام أحمد، وذلك باستعمال طرق احتيالية وإيهامه بواقعة مزورة، وكانت الأوراق قد أفصحت - وحسب بلاغ المجنى عليه وشهود الواقعة - بأنه تاجر مجوهرات، وأن المدعيتين كانتا قد تظاهرتا بنية شراء مشغولات ذهبية وماسية، وقامتا بتوكيد هذه النية الكاذبة بما أبدتاه من مظاهر الثراء واستغلال مكانتهما الاجتماعية بحسبان الأولى ابنة طبيب مرموق يعمل مديرًا لمستشفى القوات المسلحة بالإسكندرية، والثانية زوجته، وقامت الأولى بتحرير شيكات بنكية من دفتر شيكات الثانية بناء على توكيل منها بذلك، بقيمة المجوهرات على زعم شرائها لها، فتوصلتا بهذه الطرق الاحتيالية إلى الاستيلاء عليها دون نية سداد قيمتها. وإذ تدوولت الدعوى الجنائية أمام تلك المحكمة فدفعت المدعيتان بعدم دستورية المادة (336) من قانون العقوبات، وإذ قدرت المحكمة جدية هذا الدفع، وصرحت لهما بإقامة الدعوى الدستورية، فأقامتا الدعوى المعروضة.
وحيث إنه عن الدفع المبدى من هيئة قضايا الدولة بعدم اختصاص هذه المحكمة بنظر الدعوى؛ لابتناء الطعن على مخالفة النص المطعون فيه لأحكام العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية، باعتبار أن تلك الاتفاقية - التى انضمت لها مصر - بعد التصديق عليها ونشرها، تكون لها قوة القانون، إعمالاً للمادة (151) من دستور 1971، المقابلة للمادة (151) من الدستور الحالى. فذلك الدفع مردود بأن قاعدة مخالفة نص فى قانون لقانون آخر، وإن كانت لا تشكل فى ذاتها خروجًا على أحكام الدستور المنوط بهذه المحكمة صونها وحمايتها، إلا أن ذلك لا يستطيل إلى حالة إذا ما كانت تلك المخالفة تشكل إخلالاً بأحد المبادئ الدستورية التى تختص هذه المحكمة بحمايتها والذود عنها. متى كان ذلك، وكانت المدعيتان قد أقامتا دعواهما المعروضة طعنًا على نص المادة (336) من قانون العقوبات لمخالفتها لنصوص المواد (41، 64، 65، 66، 67، 69، 151، 165، 166) من دستور سنة 1971، الأمر الذى يكون معه الدفع المبدى بعدم اختصاصها مفتقدًا لسنده، ويتعين الالتفات عنه.
وحيث إن المادة (336) من قانون العقوبات الصادر بالقانون رقم 58 لسنة 1937 معدلاً بالمادة الثانية من القانون رقم 29 لسنة 1982 تنص على أن: "يعاقب بالحبس كل من توصل إلى الاستيلاء على نقود أو عروض أو سندات دين أو سندات مخالصة أو أى متاع منقول وكان ذلك بالاحتيال لسلب كل ثروة الغير أو بعضها إما باستعمال طرق احتيالية من شأنها إيهام الناس بوجود مشروع كاذب أو واقعة مزورة أو إحداث الأمل بحصول ربح وهمى أو تسديد المبلغ الذى أخذ بطريق الاحتيال أو إيهامهم بوجود سند دين غير صحيح أو سند مخالصة مزور وإما بالتصرف فى مال ثابت أو منقول ليس ملكًا له ولا له حق التصرف فيه وإما باتخاذ اسم كاذب أو صفة غير صحيحة، أما من شرع فى النصب ولم يتمَّه فيعاقب بالحبس مدة لا تتجاوز سنة.
ولا يجوز جعل الجانى فى حالة العود تحت ملاحظة البوليس مدة سنة على الأقل وسنتين على الأكثر".
وحيث إن جريمة النصب كما هى مُعّرّفَة فى المادة (336) من قانون العقوبات تتطلب لتوافرها أن يكون ثمة احتيال وقع من المتهم على المجنى عليه بقصد خداعه والاستيلاء على ماله فيقع المجنى عليه ضحية الاحتيال، وأن المشرع قد حدد صورًا ثلاثًا لوقوع هذه الجريمة حصرًا، إما باستعمال طرق احتيالية، وإما باتخاذ اسم كاذب أو انتحال صفة غير صحيحة، وإما بالتصرف فى مال الغير ممن لا يملك التصرف فيه. فإذا اتخاذ الجانى سبيل الطرق الاحتيالية لارتكاب هذه الجريمة، فقد استوجب المشرع أن يكون من شأنها إيهام المجنى عليه بوجود مشروع كاذب أو واقعة مزورة أو إحداث الأمل بحصول ربح وهمى أو تسديد المبلغ الذى أُخذ بطريق الاحتيال أو إيهام بوجود سند دين غير صحيح أو سند مخالصة مزور، وهى أمور مبينة على سبيل الحصر فى المادة (336) من قانون العقوبات. وكان القضاء قد استقر على أن مجرد الأقوال والادعاءات الكاذبة مهما بالغ قائلها فى توكيد صحتها لا تكفى وحدها تكوين الطرق الاحتيالية، بل يجب لتحقق هذه الطرق فى جريمة النصب أن يكون الكذب مصحوبًا بأعمال مادية أو مظاهر خارجية تحمل المجنى عليه على الاعتقاد بصحته، هى التى تؤكد دلالة المشروع الكاذب أو الواقعة المزورة أو إحداث الأمل بحصول الربح الوهمى أو تسديد المبلغ الذى أخذ بطريق الاحتيال أو الإيهام بوجود سند دين غير صحيح أو سند مخالصة مزور.
وحيث إن المصلحة الشخصية المباشرة - وهى شرط لقبول الدعوى الدستورية - مناطها أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة فى الدعوى الموضوعية، وذلك بأن يكون الحكم الصادر فى المسألة الدستورية، لازمًا للفصل فى الطلبات الموضوعية المرتبطة بها، والمطرحة أمام محكمة الموضوع.
وحيث إنه متى كان ما تقدم، وكانت المدعيتان قد قُدِّمتا إلى المحاكمة الجنائية، بوصف قيامهما بالاستيلاء على المنقولات المملوكة للمجنى عليه، والمسلمة إليهما بناء على الطرق الاحتيالية التى استخدمتاها وإيهامه بواقعة كاذبة. وكان ذلك الفعل يمثل حالة استعمال الطرق الاحتياطية وهى إحدى صور التجريم التى تضمنتها المادة (336) من قانون العقوبات، وكانت الواقعة المنسوبة للمجنى عليهما من شأنها إيهام المجنى عليه بوجود مشروع كاذب وواقعة مزورة، وهى شراؤهما المجوهرات التى استولتا عليها، ومن ثم فإن المدعيتين تكونان مواجهتين بصورة الطرق الاحتيالية التى تتخذ الواقعة المزورة سبيلاً لتوكيدها، بما يستأهل - متى ثبت اقترافهما لها - معاقبتهما بعقوبة الحبس المنصوص عليها بالمادة (336) من قانون العقوبات (النص المطعون فيه). ويكون للفصل فى دستورية خضوع هذه الصورة من صور الاحتيال الواردة بالنص المشار إليه انعكاس أكيد ومباشر على الدعوى الموضوعية، وتتوافر للمدعيتين مصلحة شخصية ومباشرة فى الطعن على دستوريته، ويتحدد فيه - وحده - نطاق الدعوى المعروضة، دون سائر الأفعال والصور الإجرامية الأخرى التى اشتمل عليها ذلك النص.
وحيث إن المدعيتين نعتا على النص المطعون فيه - محددًا نطاقه على النحو المتقدم - إنه إذ رصد عقوبة الحبس، لمرتكب جريمة النصب فإنه يكون قد طبق هذه العقوبة على مجرد إخلال المتهم بالتزاماته التعاقدية، بما يتعارض مع نص المادة (11) من العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية، الذى انضمت إليه مصر، فيما نصت عليه من أنه "لا يجوز سجن إنسان على أساس عدم قدرته على الوفاء بالتزام تعاقدى" فإنه يكون قد نال من الحرية الشخصية لمرتكب هذه الجريمة وأخل بمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، وأن النموذج الإجرامى قد شابه التجهيل والإبهام لافتراض أن مجرد الإخلال التعاقدى يعد بمثابة طرق احتيالية، الأمر الذى يعد إخلالاً بمبدأ سيادة القانون، وبأصل البراءة، الذى لا يجوز نقضه بغير الأدلة الجازمة التى تخلص إليها المحكمة، وتكون منها عقيدتها. فضلاً عن أنه يخل بمبدأى شخصية العقوبة، واستقلال السلطة القضائية، وذلك كله بالمخالفة لنصوص المواد (41، 64، 65، 66، 67، 69، 151، 165، 166) من دستور سنة 1971، الذى أقيمت الدعوى الدستورية المعروضة فى ظل العمل بأحكامه.
وحيث إنه من المقرر فى قضاء هذه المحكمة أن الطبيعة الآمرة لقواعد الدستور، وعلوها على ما دونها من القواعد القانونية، وضبطها للقيم التى ينبغى أن تقوم عليها الجماعة، تقتضى إخضاع القواعد القانونية جميعها - وأيًا كان تاريخ العمل بها - لأحكام الدستور القائم، لضمان اتساقها والمفاهيم التى أتى بها، فلا تتفرق هذه القواعد فى مضامينها بين نظم مختلفة يناقض بعضها البعض، بما يحول دون جريانها وفق المقاييس الموضوعية ذاتها التى تطلبها الدستور القائم كشرط لمشروعيتها الدستورية، ومن ثم فإن المحكمة تتناول بحث دستورية النص المطعون فيه على ضوء أحكام الدستور الحالى الصادر فى 18/ 1/ 2014.
وحيث إن من المقرر - على ما جرى به قضاء هذه المحكمة - أنه وفقًا لقواعد القانون الدولى أن لكل دولة فى علاقاتها بالدول الأخرى، السلطة الكاملة التى تؤثر بها - ومن خلال المعاهدة الدولية التى تكون هى طرفًا فيها - فى نطاق الحقوق المقررة لمواطنيها سواء كان ذلك فى إطار حق الملكية أو فى مجال الحقوق الشخصية - وتعتبر هذه السلطة الكاملة موازية لحقها وواجبها فى أن توفر الحماية لمواطنيها، وإن كانت الحقوق التى رتبتها المعاهدة الدولية وكذلك التزاماتها، لا تسرى إلا على الدول أطرافها فى العلاقة فيما بينها، ولا يعتبر التنظيم الوارد بها - وأيًا كان مضمونه - منصرفًا إلى مواطنيها. ومع ذلك فقد حرص الدستور الحالى فى المادة (93) منه على جعل التزام الدولة باحترام الاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان التى تصدق عليها مصر، التزامًا دستوريًا، بموجبه تلتزم الدولة بالتوفيق بين تعهداتها الناشئة عن هذه الاتفاقيات، وقوانينها الداخلية، بحيث يعتبر نكوسها عن ذلك أو تراخيها فيه إخلالاً بالتزام دستورى يصادم أحكام الدستور ذاته.
وحيث إن المادة (11) من العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية، تنص على أنه "لا يجوز سجن إنسان على أساس عدم قدرته على الوفاء بالتزام تعاقدى فقط"؛ ومؤدى ذلك النص عدم جواز إنزال عقوبة سالبة للحرية على شخص، لمجرد إخلاله بالتزام تعاقدى، طالما أن هذا الإخلال غير مقترن بسوء قصد. حال أن نص المادة (336) من قانون العقوبات - المطعون فيه - لا ترصد عقوبة الحبس على مجرد الإخلال بالالتزام التعاقدى، بل يفترض لإنزال تلك العقوبة أن يكون الجانى سئ النية، بتعمده إدخال الغش على المجنى عليه، وتضليل إرادته وتزييف وعيه وقت التعاقد بما يدفعه لتسليم المال موضوع الجريمة تحت تأثير هذا الغش قاصدًا تملكيه له بغير سند قانونى ولا رضاء صحيح، وإذ كان ذلك، وكان المشرع قد تشدد فى صورة الغش التى تقوم بها هذه الجريمة وتستوجب توقيع عقوبة الحبس استنادًا إليها، بأن تطلب أن تبلغ حد استخدام الطرق الاحتيالية، وحدد حصرًا مبلغ أثر هذا الغش على إرادة المجنى عليه، بأن يكون من شأنه إيهامه بوجود مشروع كاذب، أو واقعة مزورة، أو إحداث الأمل بحصول ربح وهمى، أو تسديد المبلغ الذى أخذ بطريق الاحتيال، أو إيهامه بوجود سند دين غير صحيح، أو سند مخالصة مزور، وكان من أثر ذلك أن استنبط القضاء فى تطبيق هذا النص أن الكذب المجرد لا يكفى لقيام هذه الجريمة ما لم يتأيد بمظاهر خارجية تدعمه، بما يكشف عن تعمد الجانى الاستيلاء على مال المجنى عليه بدون حق، وإهدار مبدأ احترام حرية الإرادة وأثرها فى سلامة الالتزام التعاقدى بحسبان الغش يفسد كل شئ، وإذ كان ذلك، وكان المشرع لم يكتف بمطلق الغش لوقوع هذه الجريمة، بل تشدد فيه باشتراطه أن يبلغ حد الغش المركب، الذى لا يقوم بمجرد الكذب المجرد، بل يتدعم بالوسائل الاحتيالية الواردة على سبيل الحصر، كالواقعة المزورة فى الدعوى المعروضة، وهو الأمر الذى يفارق دلالة النص على عدم القدرة على الوفاء بالالتزامات التعاقدية التى تفترض الرغبة فى الوفاء رغم عدم القدرة عليه. وبالتالى فإن نص المادة (11) من العهد الدولى المشار إليه لا يجد له مجالاً للتطبيق على الجرائم الواردة بالنص المطعون فيه، والذى يضحى - لما تقدم - غير مصادم لنص المادتين (93، 151) من الدستور.
وحيث إن المقرر كذلك فى قضاء هذه المحكمة أن الدستور قد حرص فى المادة (41) من دستور سنة 1971 وتقابلها المادة (54) من الدستور الحالى على صون الحرية الشخصية وألحقها بالحقوق الطبيعية باعتبارها من جنسها، ليكن صونها إعلاء لقدر النفس البشرية، متصلاً بأعمالها، ومنحها بذلك الرعاية الأولى والأشمل توكيدًا لقيمها، وبما لا يخل فيه بالحق فى تنظيمها.
وحيث إن افتراض أصل البراءة - وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة - يُعد أصلاً ثابتًا يتعلق بالتهمة الجنائية، وينسحب إلى الدعوى الجنائية فى جميع مراحلها وعلى امتداد إجراءاتها. وقد غدا حتمًا عدم جواز نقض البراءة بغير الأدلة الجازمة التى تخلص إليها المحكمة، وتتكون من مجموعها عقيدتها حتى تتمكن من دحض أصل البراءة المفروض فى الإنسان، على ضوء الأدلة المطروحة أمامها، والتى تثبت كل ركن من أركان الجريمة، وكل واقعة ضرورية لقيامها، بما فى ذلك القصد الجنائى بنوعيه إذا كان متطلبًا فيها، وبغير ذلك لا ينهدم أصل البراءة، وكان حق الدفاع - أصالة أو بالوكالة - يتوخى اجتناءها من خلال وسائل الدفاع التى يعرض الخصوم بموجبها أدلتهم - واقعًا وقانونًا - بما لا تمييز فيه بين بعضهم البعض، بل تتكافأ وسائلهم فى مجال الحقوق التى يدعونها. لما كان ذلك، وكان النص المطعون فيه قد أورد بيانًا لصور الركن المادى المكون للجريمة، وما يجب أن يقارنه من قصد عمدى يتمثل فى العلم والإرادة، ووجوب ت وافر قصد خاص يتمثل فى نية الاستيلاء على المال، وكلها عناصر تناضل النيابة العامة والمتهم فى إثباتها ونفيها أمام محكمة الموضوع، والتى لا تقضى بإنزال العقوبة بالمتهم بغير الأدلة الجازمة التى تخلص إليها، وتكون من مجموعها عقيدتها، ومن ثم فإن النص المطعون فيه لا يكون متضمنًا اعتداء على الحرية الشخصية أو أصل البراءة.
وحيث إن النطاق الحقيقى لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات إنما يتحدد على ضوء عدة ضمانات يأتى على رأسها وجوب صياغة النصوص العقابية بطريقة واضحة محددة لا خفاء فيها أو غموض، فلا تكون هذه النصوص شباكًا أو شراكًا يلقيها المشرع متصيدًا باتساعها أو بخفائها من يعقون تحتها أو يخطئون مواقعها، وهى ضمانات غايتها أن يكون المخاطبون بالنصوص العقابية على بينة من حقيقتها، فلا يكون سلوكهم مجافيًا لها، بل اتساقًا معها ونزولاً عليها. إذ كان ذلك، وكان النص المطعون فيه، فى النطاق السالف ت حديده - قد صيغت عباراته بطريقة واضحة لا خفاء فيها أو غموض، تكفل لأن يكون المخاطبون بها على بينة من حقيقتها، فلا يكون سلوكهم مجافيًا لها، بل اتساقًا معها ونزولاً عليها.
وحيث إنه من المقرر أيضًا فى قضاء هذه المحكمة أنه يجب أن يقتصر العقاب الجنائى على أوجه السلوك التى تضر بمصلحة اجتماعية ذات شأن لا يجوز التسامح مع من يعتدى عليها، ذلك أن القانون الجنائى، وإن اتفق مع غيره من القوانين فى سعيها لتنظيم علائق الأفراد فيما بين بعضهم البعض، وعلى صعيد صلاتهم بمجتمعهم، إلا أن هذا القانون يفارقها فى اتخاذه الجزاء الجنائى أداة لحملهم على إتيان الأفعال التى يأمرهم بها، أو التخلى عن تلك التى ينهاهم عن مقارفتها، وهو بذلك يتغيا أن يحدد من منظور اجتماعى ما لا يجوز التسامح فيه من مظاهر سلوكهم، بما مؤداه أن الجزاء على أفعالهم لا يكون مخالفًا للدستور، إلا إذا كان مجاوزًا حدود الضرورة التى اقتضتها ظروف الجماعة فى مرحلة من مراحل تطورها، فإذا كان مبررًا من وجهة اجتماعية، انتفت عنه شبهة المخالفة الدستورية.
إذ كان ذلك، وكان المشرع قد توخى بالنص المطعون فيه حماية مصلحة اجتماعية معتبرة، بهدف الحفاظ على كيان المجتمع ولُحْمَته، تتمثل فى وجوب توافر الثقة فى المعاملات بين أفراد المجتمع، وصون حق الملكية وحمايته من العدوان عليه، وتوقى إدخال الغش على التعاملات، ومكافحة اغتيال الأموال. وما ذلك إلا امتثالاً لقول الله تعالى "إن الله يأمركن أن تؤدوا الأمانات إلى أهلا.." - الآية 58 من سورة النساء - وإذ رصد المشروع فى النص المطعون فيه عقوبة الحبس لكل من توصل إلى الاستيلاء على أموال غيره بالطرق الاحتيالية التى عينها، وأوجب لاكتمال التجريم أن يتوافر لدى الجانى علم ببطلان مزاعمه، وإرادة إدخال التدليس على المجنى عليه لدفعه إلى تسليم المال إليه بهذه الوسائل الاحتيالية تحت تأثير هذه الوسائل. وجاءت العقوبة التى رصدها النص المطعون فيه، فى إطار العقوبات المقررة للجرائم المعتبرة جنحًا، والمعاقب عليها بالحبس الذى تتراوح مدته بين يوم واحد، وثلاث سنوات، وتلك العقوبة - فضلاً عن أنها تتناسب مع الإثم الجنائى لمرتكب تلك الجريمة، دون أن يصيبها غلو أو يدخلها تفريط - تدخل فى إطار سلطة المشرع التقديرية فى اختيار العقاب، ودون مصادرة أو انتقاص من سلطة القاضى فى تفريدها فى ضوء الخطورة الإجرامية للمتهم، إذ احتفظ النص المطعون فيه للقاضى بسلطة تقديرية واسعة فى الحكم بمدة الحبس المناسبة للفعل الذى قارفه الجانى، بحسب ظروف كل جريمة وظروف مرتكبها.
ومؤدى ما تقدم جمعيه، أن النص المطعون فيه قد التزام جميع الضوابط الدستورية المتطلبة فى مجال التجريم والعقاب، بما لا مخالفة فيه لأى من المواد (54، 94، 95، 98، 151، 184، 186) من الدستور، كما لم يخالف ذلك النص أى أحكام أخرى فيه، مما يتعين معه القضاء برفض الدعوى.

فلهذه الأسباب

حكمت المحكمة برفض الدعوى، وبمصادرة الكفالة، وألزمت المدعيتين المصروفات ومبلغ مائتى جنيه مقابل أتعاب المحاماة.

أمين السر رئيس المحكمة